وداد معروف - وطار الحمام

أذن الفجر فأزاح الغطاء الثقيل من علي جسده، وزحف متثاقلا شيئا فشيئا من فراشه، توضأ وذهب لمسجد شارعهم، انتصب كجذع جاف في أول الصف، أقام ركوعها وسجودها كما تعلم من شيخ المسجد في خطبة الجمعة، عاد وهو يرتل أوراده البسيطة، البرد شديد هذا اليوم نتف الثلج تتساقط، شرب كوب الحلبة الذي تعودت زوجته أن تعده حينما تسمع التسليمة الثانية من الإمام؛ حتي يتناوله سريعا مع القرص الطرية التي يحبها؛ يركب أول ميكروباص يخرج من قريتهم، حيث بلاد الله الواسعة. أخرج عدة الشغل من أسفل سلم البيت الداخلي جوالان ثقيلان ولوح خشب طويل بسمك عريض ثبت علي حرف منه مسطرة حديد بطول اللوح وضعهم في السيارة بجواره واتفق مع السائق علي دفع أجرة راكب آخر لاصطحابه تلك العدة مازال أمامه مواصلة أخري حتي يصل إلي القرية حيث الزبون الذي أزعجه باتصالاته كي يصنع له العربة التي طلبها، لم يعد يستطيع أن يلبي كل الطلبات التي تأتيه من المحافظات المجاورة؛ المهنة حقا قل رجالها ويتركزون في بلدان بعينها، المنصورة وما حولها، مازالوا يحتفظون ببعض من هؤلاء الصناع المهرة الذين يشيدون العربات الكارو بمتانة وصلابة لتتحمل ما ستلاقيه من المشاق وما يوضع عليها من أثقال، نقل أحماله الثقال إلي السيارة الربع نقل، الوقت مبكر ولا ركاب الآن، أحكم شاله الأبيض علي وجهه فالهواء البارد يلفحه ولا باب للسيارة من الخلف ليصد الريح عنه، فسيارات هذه القري من تلك النوعية؛ فيجعلون للسيارة من خلف الكابينة قوائم ويشدون عليها صاج فيجعلونه حوائط وسقف ويتركون الناحية الخلفية لصعود الركاب؛ بعدما وضعوا لهم لوحين من خشب علي الجانبين ترفعها قوائم من حديد يجلسون عليها, صعدت طالبة وجلست، وسريعا فتحت تليفونها واتصلت بصديقتها، تنهي موضوعا وتبدأ في آخر، تشاغبها بالشتائم وتهددها بخنقها إن رأتها، ثم تطلق قنبلة الضحكات، وصاحبنا جالس ينفجر غيظا، صعد شاب وتبعته سيدة مسنة لم تستطع أن ترفع ساقها لسلم السيارة المرتفع، نزل الشاب ورفعها لتصعد، مازالت البنت تثرثر وتضحك وتشتم. انطلق صاحبنا ورشقها بتلك العبارة: "هيا المكالمات دي مش بفلوس يا بنتي! بقالك نص ساعة رغي وفي الآخر أبوكي اللي يدفع" نظرت له البنت بتعجب منعتها سنه الكبيرة أن ترد عليه معترضة على تدخله في شأنها، لكن نظرتها قالت ما حبسته انتقل بنظره للشاب كي يري في عينه نظرة تأييد لموقفه من البنت وثرثرتها، فقال له الشاب: الباقة فتحت باب الثرثرة فلم تعد الدقائق في الحسبان زمان يا ابني استأذنت جارتنا إنها تكلم والدتها من تليفوننا الأرضي في محافظة تانية، عملت زي الحلوة دي وقعدت تكلمها ٥٠ دقيقة، الحقيقة أنا كنت كل شوية أبص في الساعة وأرجع أبص لها، يمكن تحس وتقفل مع أمها، لأنني في الآخر اللي هادفع الفلوس، الشاب مستهولا المدة : خمسون دقيقة! و ياريت بتقول حاجة مفيدة، هما كلمتين من أول المكالمة لآخرها، بلاش يا أما البط بتعب منه، الأكل السمين بيوجع بطني، ضحك الشاب والبنت أيضا؛ لكنها لم تتوقف عن الكلام فجأة هجمت مجموعة من تلاميذ إعدادي علي السيارة دخل قليل منهم وجلسوا وتسطح أكثرهم ووقف علي السلم عدد آخر. السيارة بها مساحة تستوعب بعضهم، طلبت منهم السيدة المسنة أن يجلسوا ليحتموا من البرد، لم يستجيبوا، ألح عليهم صاحبنا لم يتزحزحوا عن موقفهم قيد أنملة اقتنع السائق أخيرا بحمولة سيارته، فهم أحرار يجلسون بالداخل أو يتسطحون فوقها، المهم أن عددهم يفوق حمولته العادية. انطلق يقطع الطريق الزراعي بين الحقول، وهم فوقها يضحكون ويغنون ويتشاتمون، وعند جسر قريتهم، دقوا له علي الصاج ليتوقف، طاروا كالحمام من فوقها ومن حولها وهم يتصايحون ويضحكون، نزل السائق من الكابينة فلم يجد منهم حمامة واحدة، شتمهم وأهلهم ونفسه ثم لعن زميله الذي أشار عليه بهذا الخط اليوم، وضرب صاحبنا كفا بكف وأنزل جوالاته وحملها وهو متوجس أن يكون الزبون والد تلميذ من هؤلاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى