فاطمة مندي - لقيطة الجسر

ليس الان، أو ربما في وقت اخر ، تتناغم الدقائق، تنسل كخيط عنكبوت من بيته المقلوب على سطح الغرفة الساجي ، قد ابوح بكل شيء، أو أختصر كل شيء، او عن أي شيء، انها اللحظة التي كنت انتظرها لعشرين عاماً.
منذ أن امسكت الحكاية وانا أفكر من داخل علبة معدنية أغلقتها بإحكام، ثمة من يركلها بقدميه، أو من يضعها في برميل قمامة، ترمى بمقالع الصحراء، افتح بابا للعلبة المعدنية بأظافري، أخرج لعالم الصحراء المبهم، افلت من خيط حكايتي، بهدوء وعلى نسيم الليل اسردها كما ترغب حبات الرمل الناعمة.
لا أعلم من أنا، او من أكون، او حتى من أي رحم خرجت، كل ما كنت اسمعه صوت حبات المطر ، احرك قدمي ، اصابعي لزجة، كان ضوء الشمس يعكس مرأة النهر داخل عيني، انتعش بالظلام، لكنني ارغب بفتح عيني في كل لحظة، يمتد ظل مهول، يحجب ذلك الضوء، افتح عيني، ثمة أيدي تتلقفني كدمية، اتنفس روائح لا تشبه بعضها البعض، اتفحص وجوه طاغية بسمار قمحي، وعيون جحظة، وانوف صغيرة وكبيرة.
اتذكر تلك الصبية التي اعطت لمغسلتي قطعة من قماش قطن، كما أنني لم انس تلك المرأة التي تتكلم بصوت جهوري جاف، كما لو ان حنجرتها ساق شجرة الصنوبر، بهمس كانت تكلم المرأة التي وضعتني على فخذيها الغليظين:
هل وجدها متولي تحت الواح الجسر، من دون ان تلف بخرقة أو بشيء ما؟!
وضعتني صاحبة الفخذين الغليظين في سلة صغيرة، وراحت تهزني بحركة خفيفة، كانت رغبتي بالبكاء تزداد كلما شممت رائحة المرأة، فما زال سؤالها عالق بذاكرتي، لكن قلبها طيب، طيب جدا فما أن أصبحت صبية حتى عرفت في ما بعد أنها الجدة لعشر صبيات مثلي.
كنت أجملهن، اذا ما نظرت الى سماح صاحبة العينين الزرقاوتين والوجه الابيض كالثلج، كنت اعلم جيدا انني لقيطة الجسر، لكنني لا اعلم بالعشر الباقيات. فكل ما كنت اسمعه من صاحبة الفخذين والتي اصبحت الان كسلحفاة، عندما كانت تنادي احدى الفتيات العشر بـ : يمدهولة او يمعسولة، او كانت تنادي سماح يازرقة، وتناديني بعسلية.
تزوجن جميعهن، اما انا فلقد شذيت عن قاعدتهن، أجوب شوارع الأسكندريه منذ شهرين، لا شيء احس به بغرابة صارمة، بل ان كل شيء بالنسبة لي عادي، أنام بأزقة ضيقة متخفية من عين ثملة او من متسكعي الليل، او من شرطي، اسرق ما تلوح يدي من بسطات المطاعم، او ثمة من استعطفه برغيف خبز.
قبل شهرين او أكثر كان الجزار يراقب خطواتي، يرمي بلسانه الحاد كسكينة صغيرة، كلمات لا ارغب بها، لم اكن اتوقع انني سأكون معه تحت سقف واحد، بل كان هروبي في تلك الليلة هو خلاصي الوحيد عندما ارادني زوجته الرابعة.
لا ارغب بالحديث عن عشرين سنة، وكما وعدت رمال الصحراء الناعمة انني سأختصر المسافة في عالمي المحدود، لكن الامر قد حان لأكور نفسي داخل علبة معدنية ليرميني القدر كيفما يشاء، والحق انني سوف اكتب على تلك الرمال الناعمة حكايتي ثم اعود الى العلبة لأغلقها ثانية والى الابد.

فاطمة مندي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى