المستشار بهاء المري - القَتَلة...

بمَهارةِ من يَحترفُون اللَّعبَ فَوقَ الحِبالِ؛ صَالَ وجالَ بين جَنباتِ الدعوى من أقصَاها إلى أقصَاها؛ انهالَ بمَعاول التَّفنيد على جُلّ أدلَّتها، راحَتْ أركانُ الجرائم وأدلة الإثبات تَتهاوَى لبِنةً لبِنة؛ حتى انهارَ كامل بُنيانِها.
كان المحامي الشهير مَحظوًظًا بأخطاءٍ إجرائيةٍ فادحة لم تَخْفَ على فِطنةِ القُضاةِ وهُم يُطالعُونَ الدعوى قبل الجُّلوس على المنصة، وتَناقُضاتٍ تَنالُ حَتمًا من الدَّليل، وتُصِيبُ قُوَّتهُ الثبوتية في مَقَتلْ.
لم تُغادرهُ أعْيُنُ القُضاة خلال مُرافعتهِ لَحظةً واحدة، شَغَفَ الحُضور الكبير وذوي المتَّهمينَ الثمانية والعشرين، والصَّحَافيين والمُراسِلين ببراعته، صَمتت القاعة تمامًا إلا من جَلجلة صَوته ومَقدرته على استلاب الأسماع، وكأنَّ الطَّير فوق الرؤوس .
حَجَزَتْ المحكمةُ الدَّعوى للحُكم، صَفحاتها تُجاوز عدَّة آلافٍ من الأوراق والمستندات، اهتمامٌ مَحلِّيّ ودُوَلىّ وعالمَيّ، ومُتابعة إعلامية غير مَسبوقة، المقتولُ من كِبار رُؤساءِ ثاني أكبر مُؤسَّسة في الدولة، والمتَّهمونَ بالقتل من ائتلاف جماعاتٍ إرهابيةٍ مُتباينة، بَيدَ أن أطماعهم واحدة.
مرَّت الأيام سريعا وحانَ يوم النُّطق بالحكم، استَمرَّت المداولة قبلها لسَاعاتٍ عِدَّةٍ مُتواصلة؛ كان العَرَقُ يَتصَبَّب من القضاة الثلاثة وكأنهم يَعمَلون عَملاً عضَليًا وليس ذهنياً بَحتًا، الوجُوه مُكفهرَّة، علامَاتٌ غريبة تَعكِسُ أحاسيسَ مُتناقضة تَكسُو مُحَّياهم، احتدَّت نَبرة الصَّوت أحيانًا عند إبداء الآراء القانونية المتباينة، صَمتٌ يُطبق على المكان للحظاتٍ فيزيد من سُخونة الجوِّ على الرغم من عَمَل المبُرِّد على وضع"تيربو" في غُرفة ضيِّقة لهذه الساعات المتواصلة.
نالت الحيرة منهم ما لم تَنله من قبل في أعتَى القضايا وأكثرها تَعقيدًا، كان خاطرًا وحيدًا يدور في أذهانهم، كيف لقضيةٍ مثل هذه تَتهاتَر فيها الأدلة على هذا النحو؟ إنَّ تقصيرًا إجرائيًا مَلحوظًا أحاطَ بجنباتها، وإجراءات أخرى كثيرة خُولِفَ فيها القانون مُخالفة صريحة تحت اضطراب الأجهزة الأمنية من بَشاعة الحادث.
تَساءَل عضو اليسار بصوتٍ مَسموع:
- أليسَ لنا أن نَتجَاوز عن تلك الهنات؟
انزعج عضو اليمين، تركَ صفحاتٍ كان يُقلِّبها ورفَع وجهه إليه مُستغربًا ما سَمع:
- ماذا؟ هَنات؟! كل هذا العَوار، وتقول هَنَات؟!
تَدخَّل رئيس الجلسة:
- على رِسْلِكُما، إنَّ الأمر جَد مُحيرِّ، ولو صَبَرتما قليلاً لسَمعتما ذات التساؤل، ليتَ في الأوراق ما يُسعِفُنا إلى تَجاوز ما فيها من عَوار.
خفَّفَتْ هذه المداولة الهامشية من وقْع ذلك الضغط النفسي الذي مرَّوا به، ثم مرَّت الساعات وانتهت المداولة.
مَحكَمَةْ: كلمةٌ صاحَ بها الحاجِبُ صَيْحةً مُدَوِّية؛ هَبَّ لها المزدحمون في القاعة وُقوفًا شاخِصَة أبصارهم، وحبَسَ معها الناس أمَام الشَّاشاتِ في البيوت وفي المقاهي أنْفاسهم، ثم كان النطق بالحكم.
جال رئيس المحكمة بنظره في جَنبَات القاعة، ثم عادَ بهما ليَنظُر نظرةً طويلة إلى القائمين في القفص، ثم نَطَق بعد لحظات صَمتٍ مرَّت عليهم مثل دهر:
- المُتَّهمونَ جميعًا: .........، ولم يُكمل العبارة، شَعَرَ بغُصَّة مُفاجِئة في حلقة؛ ازْدَردَ ريقه واستطرد يقول:
ـ حُضوريًا، براءة!
كانت عِبارة "اللهُ أكبر" الصَّادرة مِن حَناجِر ثَمانيةٍ وعشرين متهمًا تُزَلزلُ أرجاءَ القاعة.
انفَضَّ المُولِد، هَدَأتْ السَّوْرَاتُ، تبايَنت رُدود الأفعال، فَرْحَة، حُزن، اغتباط، إحباط، تَّأييدٌ، رَفض، إلخ، ولكنَّ الأمر قد قُضِي وصدرَ الحكم.
قَصَدَ المُتَّهمونَ ـ بعد الإفراج عنهم ـ وزعماؤهم المحامي الكبير بقَصْره المُنيف في التَّجَمُّع الخامس، راحوا يَشكرون، يُهِّنئون، يَتهامَسُون، يَتفاكَهُونَ، يَتضاحَكُون.
حان وقت الصلاة؛ اصطفوا وصلُّوا، بَسْملوا، حَوقلوا، ابتهلوا إلى الله بالدعاء، ثم تناولوا ما أُعِدَّ في قصر الأستاذ ـ مِن جُيوبِهم ـ مَّما لَذَّ وطَابَ من الأطعِمة الشَّهيَّة والفاكهة، وشراب البيبسي كولا وسِفن أبْ وغيره.
وبعد الغداءِ توالت ثانية عِباراتُ الإعجابُ، الإطراء، الإكْبار، الإجْلال، والشَّهادة بالفَصاحةِ والبَيان.
أخْجَلُوا الأستاذ، وقَفَ من جُلِّ ما سَمِعَ ليَنحنيَ انحاءةً خفيفة تَعبيرًا عن عَظيم امتنان، خاطَبَهُم في سُكون:
ـ أرجوكم كَفَى، هذا واجِبي، وحُكم البراءة من حَقكم.
كرروا ما كانوا يَقُولون، قال مَهْلاً؛ لا تُبالغون، عاوَد الانحناءَ الخفيف، عاوَدوا الثناء الكثيف.
عاد ليقول: يا أحبَّتي، لا أستحقُ كل هذا الإطراء.
يُجيبهُ أحدُهم مُبتسمًا وهو يُمَررُ كف يده اليمنى على لِحْيتهِ الطَّويلة:
ـ وكيفَ لا يا أُستاذَ، وقد صَدَّقْنا أنَّا لسْنَا القاتلين؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى