محمد الدويمي - سنين فاحمة..

هدوء رهيب لا متناهي يبسط أجنحته على المكان...
إحساس بالوحشة يرسم ملامح عالم آخر..
تشدني بالمكان روابط متعددة.
أعرف الكثير من الجيران والأقارب الذين يقيمون أبديا هنا...
أغلبهم عمال فحم.
دخلت المقبرة بخشوع.
سلمت على الموتى.
اتجهت صوب قبر الوالد.
قرأت الفاتحة ودعوت له بالرحمة...
رائحة الموت تحبس الأنفاس.
أيقض المكان أياما مدفونة في رهبة أبدية.
ابتلعني السكوت كما يبتلع المكان الأيامَ والأحلام وقسطا من شبه الحياة في جرادة...
تذكرت الموت المزعج حين زار بيتنا ذات يوم عبر سعال بغيض وعرق متصبب...
التحق الوالد بالمنجم وهو لم يبلغ العشرين من عمره..
مذ بدأت أعي وهو يغادر المنزل باكرا إلى البئر قبل أن نستيقظ.
يمكث في عمله تحت الأرض ساعات طويلة.
في أغلب الأوقات، يعود بعد مرور العصر وفي أيام كثيرة عندما تغيب الشمس وراء الأفق.
كنت أترقب كل يوم بشغف رجوع أبي من العمل.
أنتظر قدومه وأنا جالس على عتبة الباب.
حين أرمقه من بعيد، أفرح وأسرع لاستقباله.
يضعني على كتفيه ورجْلاي الصغيرتان تتأرجحان فوق صدره ويداي تعبثان بشعره.
أشم رائحة الفحم ممزوجة بالعرق تنبعث من جبينه ومن كتفيه..
أستشعر صدى دقات قلبه المتسارعة وتدفُّق أنفاسه..
أحدق مليّا في آثار غبار الفحم العالق بجسمه.
أوضح أبي، وكأنه أدرك ما يجول في خاطري الصغير، بأن الماء انقطع عن العمال فجأة دون أن يتمكنوا من إزالة الغبار والعرق عن أجسامهم.
أضاف أبي، بأنها ليست المرة الأولى التي يحصل فيها شيء كهذا...
سكت... ربما كي يزدرد تعبه ومعاناته وتذمره...
عند وصولنا إلى البيت، يستلقي أبي متعبا على الفراش متهالكا..
نرتمي وإخوتي في أحضانه ونحن نتصايح من شدة الفرح...
تضع أمي أمامه نصيبه من وجبة الغذاء التي ألِف تناولها خارج أوقاتها، وتأمرنا بمغادرة المكان قائلة:
- "خَلِّيوْ بّاكُمْ يْرَيَّحْ راهْ عِيّانْ وْجيعانْ؟"...
يكتفي بلقيمات قليلة...
يملأ جوفَه ماء سرعان ما يخرج عرقا من جسمه الفاحم..
العمال يعطون الشركة كل شيء، شبابهم، جزءاً من شيخوختهم.. صحتهم.. وقتهم.. راحتهم...
يتحملون التعب والإرهاق والمعاناة والمشقة بين أروقة وسراديب المنجم الضيقة المغبرة مقابل مبلغ زهيد يتسلمونه كلّ "كانْزينَة".
تمر الأيام.
لم يعد بمقدور أبي أن يحملني فوق كتفيه..
يكتفي بشدي من يدي ويسافر بي إلى عالم المنجم..
بدأ التعب والوهن يعترضان قوة أبي ويَكْمحان نشاطه.
أصبحت كلماته تتحشرج في قصبته الهوائية.
أضحى نفَسُه يضيق في صدره ويسبّب له سعالا رهيبا يبصق من خلاله بعضا من كدحه ومعاناته...
بقايا سيليس لزج...
شيء من دم...
طرف رئة...
عانى أبي كثيرا مع السيليكوز...
في آخر أيامه، أجهز عليه المرض وأحاط به من كل جانب فلم تعد تنفعه مهدئات السعال ولا زيارات الطبيب المتكررة...
في زوايا أحد الغرف، يجلس مفترشا الأرض ونصفه الأعلى مستنِدا على الحائط بعدما تخلص من جل ثيابه إلا من عباءة فضفاضة تُظهر أطرافه النحيلة وقفصه الصدري الضّامر.
وُضع أمامه وعاء بلاستيكي يرافقه أينما جلس ليبصق فيه.
بصاق تارة أسود ناجم عن ذرات فحم مترسبة في أحشائه وتارة أخرى بلون الدم نتيجة اهتراء الرئة وتفتتها.
عاش الوالد على هذه الحال ما يربو عن ثلاث سنوات ونَيّف..
يؤنسنا بسعاله وتأوهاته..
نحيطه بنظراتنا ونتقاسم معه معاناته وأرقه..
بدا الوالد في آخر أيامه مثل حطام مرآة تعكس وجه حقوق مهضومة وعدالة ضيزى..
مرآة تعكس صورا أليمة لضحايا ظلم اجتماعي واستغلال فاحش يرزخ تحت وطأته العمال ويقاسون من تبعاته...
قاسى أبي كثيرا وهو يصارع المرض حتى جاءه أجله بعد أن استوفى الموت شروطه وخلصه من براثن الألم.
مات أبي كما مات قبله كثير من عمال الفحم…
زاره الموت مبكرا وهو لم يبلغ سن التقاعد بعد..
رُدم معه في قبره رقمه المهني وسنوات عمله الطويلة ونسبة السيليكوز التي خرّبت رئته إضافة إلى معاناته وآهاته..
ترك لنا كثيرا من ذكريات تعبه وجزء يسيرا من تعويضات عن المرض المهني المميت أُسْقطت دون رجعة مع التقادم...

محمد الدويمي،

رواية: جرادة.. بقايا أيام متمردة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى