أنطون تشيخوف - ناعسة.. ترجمة: منير البعلبكي

الدنيا ليل. و«فاركا» الحاضنة الصغيرة ذات الثلاثة عشر ربيعاً تهز السرير الذي استلقى عليه الطفل، وتهمهم بصوت يكاد لا يُسمع:
«أوووه......!»
نم، نم يا عيني نم!
على صدى النغم»
المصباح الصغير الأخضر يشتعل أمام الأيقونة. وقد امتد من أقصى الغرفة إلى أقصاها حبل تدلت عليه ثياب الطفل وبنطلون كبير أسود. إن على السقف لرقعة عريضة خضراء من مصباح الأيقونة، وإن ثياب الطفل والبنطلون، لتلقي ظلالا طويلة على الموقد، وعلى السرير، وعلى فاركا... وعندما يخفق المصباح تدب الحياة في الظلال والرقعة الخضراء، وتنشط حركاتها، وكأنما يسوقها حادي الريح. إن الهواء لفاسد، فهناك رائحة من حساء الكرنب ورائحة من دكان أحذية...
الطفل يبكي ويصرخ. لقد بح لطول ما صرخ، وخارت قواه. ومع ذلك فهو يواصل النحيب، وليس يُدرى متى يقلع عنه. وفاركا ناعسة. لقد دبقت جفونها بعضها ببعض، وإن رأسها ليثقل ويكبو، وإن عنقها ليؤلمها. إنما لا تستطيع أن تحرك أجفانها أو شفتيها، وهي تحس كأنما قد جف وجهها وتخشب وكأنما قد صار رأسها صغيراً بقدر رأس الدبوس...
«نم... یا حبيبي نـ...ا...م
على صدى النغم»
وفي الموقد صرصور لا يفتأ يصر، ومن خلال الباب في الغرفة الثانية يغط المعلم والتلميذ آفاناسي ويشخران... إن السرير ليترنح ويئن، وإن فاركا لتهمهم. وإن كل هذا ليذوب في موسيقى الليل المخدرة التي يلذ للمرء كثيراً أن يسمعها وهو مستلق في فراشه. ولكن هذه الموسيقى ليست الآن إلا شيئاً مثيراً مزعجاً، لأنها تسوق فاركا إلى النوم، وهي مضطرة إلى أن لا تنام. ولو قد غلب النوم على فاركا -لا سمح الله!- إذا لضربها سيدها أو لضربتها سيدتها...
ويرتجف المصباح، وتتحرك الرقعة الخضراء، وتضطرب الظلال مقحمة نفسها في عيني فاركا الثابتتين نصف المفتوحتين لتحول في ذهنها النائم اليقظان صوراً ضبابية مبهمة. إنها لترى سُحباً دكناء تطارد بعضها بعضاً في السماء، وتصرخ كما يصرخ الطفل. ولكن الريح لا تلبث أن تهب، وتنقشع الغيوم، فترى فاركا طريقاً طويلة مغطاة بالأوحال المائعة، وقد امتدت على طول هذا الطريق مجموعة من العربات، بينا يغذ الناس السير وأخراجهم على ظهورهم، وبينا تتراكض الظلال إلى الأمام وإلى الوراء. وعلى جانبي الطريق كانت تستطيع أن ترى الغابات من خلل الضباب الفظ البارد. وفجأة يسقط الرجال بأخراجهم وظلالهم على الأرض في الأوحال المائعة. وتسأل فاركا: «لأي شيء ذلك؟» فيجيبها الجمع: «للنوم، للنوم!» ويدركهم النعاس، فيغرقون في سبات لذيذ، بينا انتصبت الغربان على أسلاك البرق تنعب كما ينعب الطفل، وتحاول أن توقظهم.
«أووووه...
نم... نم يا حبیبي نـ...ا...م
واشبع من الأحلام!»
همهمت فاركا بهذه الترنيمة وإذا بها ترى نفسها في كوخ مظلم فاسد الهواء. إن أباها المتوفى، يافيم ستيبانوف، ليتقلب على الأرض ذات اليمين وذات الشمال. إنها لا تراه ولكنها تسمعه يئن ويتقلّى على جمر الأوجاع. «لقد انفـ.جرت أمعاؤه» كما يقول، واشتد عليه الألم حتى لقد أصبح عاجزاً عن أن ينطق بكلمة فهو لا يستطيع إلا أن يغرغر بأنفاسه ويصك بأسنانه صكّاً هو أشبه شيء بصوت الطبلة:
«بوو-بوو-بوو...»
كانت أمها، بيلاجايا، قد هرعت إلى بيت السيد لتعلمه أن يافيم يعاني سكرات الموت. لقد انقضى على ذهابها برهة طويلة، وآن لها أن تعود. وفاركا جالسة يقظى، أمام الموقد تستمع إلى أبيها يردد:
«بوو–بوو –بوو...»
وما هي إلا لحظة حتى تسمع وقع أقدام تقترب من بعيد. إنه طبيب شاب من المدينة، بعث به من البيت الكبير الذي كان في زيارته. وبلغ الطبيب الكوخ. إنه لا يرى في الظلام، ولكن بالإمكان سماعه يسعل ويخفق الباب.
وقال الطبيب: «أضيئوا شمعة!».
فأجابه يافيم:
« بوو–بوو–بوو...»
وتندفع بيلاجايا إلى الموقد وتأخذ في البحث عن القدر المكسورة التي تضم عيدان الكبريت. وتنقضي دقيقة من الصمت، ويتحسس الطبيب جيبه ويشعل كبريتة
«دقيقة واحدة، أيها السيد، دقيقة واحدة».
قالت بيلاجايا ذلك وانطلقت من خارج الكوخ لتعود وشيكا وفي يدها قطعة من الشمع.
إن وجنتي يافيم لمتوردتان، وإن عينيه لتلمعان، وإن في نظراته لحدة خاصة كأنما كان يتطلع إلى ما وراء الكوخ والطبيب...
وانحنى الطبيب يفحص عن أمره ويقول: «ماذا بك؟ وما الذي تفكر فيه؟ هل قضيت زمناً طويلاً على هذه الحال؟»
- «ماذا ؟ أنا مائت أيها السيد. لقد جاءت ساعتي... يجب أن لا أظل بين الأحياء...»
- «لا تنطق بهذا الهراء. سنعالجك نحن ونشفيك!»
- «لك ما تشاء، أيها السيد، وإنا لنشكرك في اتضاع. ولكننا نعرف جيداً أنه إذا جاء الأجل فلا نستأخر ساعة، ولا نستقدم!» ويسلخ الطبيب في فحص يافيم ربع ساعة، ثم ينهض ويقول: «لا أستطيع أن أفعل شيئاً. يجب أن تقصد إلى المستشفى. هناك يجرون لك عملية. اذهب حالا... يجب أن تذهب! لعلك تأخرت. وليس من شك في أن رجال المستشفى قد آووا إلى النوم. ولكن لا بأس، سأعطيك بطاقة مني. هل تسمع؟»
وتسأل بيلاجايا: «ولكن كيف يستطيع الذهاب إلى هناك، أيها السيد الكريم؟ إننا لا نملك فرساً..»
- «لا بأس. سوف أسأل سيدكم أن يزودكم بفرس.»
ويمضي الطبيب لسبيله، وتمضي في إثره الشمعة وتنطلق أصوات ال «بوو - بوو– بوو» من جديد. وبعد نصف ساعة تقترب عربة من الكوخ لنقل يافيم إلى المستشفى. ويتأهب يافيم ويذهب...
ولكن الصبح قد انبلج الآن. إن بيلاجايا ليست في البيت. لقد ذهبت إلى المستشفى لترى ما الذي يجرونه ليافيم. إن ثمة لطفلا يصرخ، في مكان ما، وإن فاركا لتسمع إنسانا يغني بصوتها هي:
«أووووه.
نم، نم، يا عيني نم
على صدى النغم»
وترجع بيلاجايا وتصلب على نفسها وتهمس: «لقد عالجوه مساء ولكنه أسلم الروح إلى خالقه، قبيل الفجر. لتكن مملكة السماء نصيبه، والسلام المقيم. يقولون إنه قصد المستشفى بعد فوات الأوان. كان يجب أن يذهب قبل ذلك بكثير...»
وتنطلق فاركا إلى الطريق، فتعول هناك وتنوح. ولكن يداً لا تلبث أن تنقض على رأسها قوية عنيفة، فترتطم جبهتها بشجرة من السدر، وترفع عينيها، فإذا بها ترى سيدها الإسكافي قائماً أمامها!
- «فيم أنت غارقة، أيتها الكلـ.بـة الجـ.رباء؟! إن الطفل ليبكي وأنت نائمة!».
قال ذلك وصفعها صفعة حادة وراء الأذن، فهزت برأسها، وهزت السرير وهمهمت بأغانيها... وتتحرك الرقعة الخضراء وظلال البنطلون، وثياب الطفل إلى الأمام وإلى الوراء، ولا تلبث أن تستغرق ذهنها من جديد. إنها لترى الطريق الطويلة، مرة ثانية، سابحة في الوحول المائعة. لقد استلقت الجماعات التي تحمل الأخراج على ظهورها، واستلقت الظلال، وغرقت في نوم هادئ عميق. إن فاركا لترى هؤلاء جميعاً فيأخذها شوق إلى النوم شديد. كانت خليقة بأن تستلقي على الأرض سعيدة مبتهجة، ولكن أمها بيلاجايا تسير إلى جانبها تستحثها كلما أبطأت بها الخُطا. إنهما تسرعان معاً إلى المدينة عساهما تجدان عملا يطعمهما خبزاً وتستجدي أمها من تلتقى بهم من الناس: «أعطونا صدقة من أجل المسيح! أرونا الرحمة الإلهية أيها القوم الكرام القلوب!»
فيجيب صوت غير غريب: «أعطوا الطفل هنا!» ويردد الصوت نفسه، في قوة وغضب هذه المرة: «أعطوا الطفل هنا! هل أنت نائمة أيتها الفتاة الحقـ.يرة؟».
وتنهض فاركا، وتتطلع حولها فتدرك حقيقة الأمر. ليس ثمة طريق طويلة، ليس ثمة بيلاجايا، ولا أناس تلتقي بهم في الطريق. إن هناك سيدتها فحسب، جاءت لترضع الطفل فهي واقفة في وسط الغرفة. وفيما كانت المرأة القوية العريضة الكتفين ترضع الطفل وتهدئ من روعه كانت فاركا ترنو إليها ريثما تنجز ما هي بسبيله. وفي خارج النوافذ كانت الريح قد أخذت تسكن قليلاً قليلاً أما الظلال والرقعة الخضراء على السقف فكانت تذوى وتصفر. ولن يطول الأمد حتى ينبلج الصبح.
والتفتت السيدة إلى فاركا، وقالت وهي تزرر قميصها على صدرها: «خذيه، إنه يصرخ. لا ريب في أن أحدا قد صنع له سحراً!»
وتأخذ فاركا الطفل فتضعه في السرير، وتشرع تهز له من جديد. إن الرقعة الخضراء والظلال لتنمحي شيئاً بعد شيء، فليس ثمة بعد الآن ما يقحم نفسه في عينيها ويملأ ذهنها بالغيوم. ولكنها ناعسة، ما تزال -كعهدها من قبل- ناعسة إلى حد مخيف! وتسند فاركا رأسها إلى حافة السرير، وتهز بجسدها كله لتغالب النعاس، ومع ذلك فأجفانها يدبق بعضها ببعض، ورأسها مثقل مكدود. وتسمع صوت سيدها من خلال الباب ينادي: «فارکا، أشعلي الموقد!»
وإذن فقد حان الوقت للنهوض والبدء بالعمل. وتبرح فاركا السرير، وتهرع إلى السقيفة لتجمع الوقود. إنها لمبتهجة. فالمرء لا يأخذه النعاس، وهو في حال الحركة والطواف، بقدر ما يأخذه إذا لزم القعود. وتحمل فاركا الحطب، وتشعل الموقد. وتستشعر أن وجهها المتخشب قد عاد رخصا طرياً، من جديد وأن ذهنها قد أخذ بأسباب الوضوح والصفاء وتصرخ سيدتها: «أعدي «سماور» الشاي!».
وتتناول فاركا قطعة من الخشب فتقدّها قطعا صغيرة، ولا تكاد تشعل القدد الصغيرة وتضعها في «السماور» حتى يطرق سمعها أمر جديد: «فاركا ، نظفي (كالوش) سيدك!».
وتجلس فاركا على أرض الحجرة، وتنظف (الكالوش) وهي تفكر في ذات نفسها: كم هو جميل أن أضع رأسي في (كالوش) ضخم عميق فأغفو غفوة قصيرة في ذلك المضجع الوثير... وبمثل لمح البصر، يتعاظم (الكالوش) وينتفخ فيستغرق الغرفة برمتها. وتسقط الفرشاة من يد فاركا، ولكنها تهز برأسها فجأة؛ وتفتح عينيها أقصى ما يمكنها أن تفتحهما، وتحاول أن تنظر إلى الأشياء لكي لا تبدو لها متعاظمة منتفخة، ولكي لا تتحرك أمام ناظريها وتغسل فاركا درجات السلّم، وتكنس الغرف، وتزيل منها الغبار، ثم تشعل الموقد كرّة ثانية، وتنطلق إلى الدكان. إن ثمة لأشغالاً كثيرة فليست تجد دقيقة واحدة من فراغ.
بيد أنه ليس أصعب على فاركا من التزام الوقوف في المكان نفسه أمام منضدة المطبخ تقشّر البطاطا. إن رأسها ليكبو على النضُد، وإن البطاطا لتتراقص أمام عينيها، وإن السكين لتسقط من يدها، في حين تتمشى من حولها سيدتها البدينة. الغضبى، وقد شمّرت عن ساعديها، ورفعت صوتها بالكلام، فإذا هو يحدث رنيناً في أذني فاركا.. وليس يقل عن ذلك إيلاماً الانتظار على المائدة والغسل والخياطة. إن هناك لساعات تتوق فيها إلى أن ترتمي على الأرض دون أن تأبه لشيء وتنام وينقضي النهار. وإذ ترى فاركا الظلام يخيم على الكون، تضغط على صدغيها وهي تستشعر أنهما صنعا من خشب، وتبتسم، على الرغم من أنها لا تعرف لماذا؟ إن الغسق ليتملق عينيها اللتين ما تكادان تقاومان النعاس،
وإنه ليعدها بنوم عميق في وقت قريب. وفي المساء يُقبِل الزائرون.
وتصرخ سيدتها: «فاركا، أعدي (السماور)!.» و (الساور) صغير. لذلك يتعين عليها أن تعده خمس مرات قبل أن يشرب الزائرون كل ما يرغبون في شربه من الشاي. وبعد الشاي تقف فاركا ساعة
بتمامها، في المكان عينه، تنظر إلى الزوار، وتنتظر ضروب المطالب.
- «فارکا، اركضي واشتري ثلاث زجاجات من الجعة!» وتسرع فاركا لتنفيذ الأمر، وتحاول أن تركض أقصى ما تستطيع، وأن تطرد النوم من عينيها.
- «فارکا، هاتِ شيئاً من الفودكا! فاركا، أين مفتاح الزجاجة؟ فاركا، نظفي سمكة صغيرة!»
ولكن، ها هم الزائرين قد انصرفوا، آخر الأمر، لقد أطفئت الأنوار. وآوى السيد والسيدة إلى مضجعهما.
وطرق مسمعها مطلب أخير: «فاركا، هزي للطفل!».
إن الصرصار ليصر في الموقد. وإن الرقعة الخضراء على السقف وظلال «البنطلون»، وثياب الطفل لتقحم نفسها في عيني فاركا نصف المفتوحتين، من جديد، وتغمزها بأعينها، وتملأ ذهنها بالضباب وتتمتم:
«أوووووه
نم، ياصغيرى، نـ ... ا...م
على صدى الأنغام!»
ويصرخ الطفل ويكاد يمزقه الصراخ. ومرة ثانية ترى فاركا الطريق الطويلة الموحلة، والناس وأخراجهم، وأمها بيلاجايا وأباها يافيم. إنها تدرك كل شيء إنها تفهم كل شيء. ولكنها، في نومها اليقظان هذا، لا تستطيع أن تدرك القوة التي تقيد يديها ورجليها، وتنيخ عليها بكلكلها، وتحول بينها وبين الحياة. وتجيل طرفها فيما حولها تبحث عن تلك القوة عساها تفلت من نيرها، ولكنها لا تجدها. وإذ يبلغ منها الإعياء، آخر الأمر، غاية الموت، تفتح عينيها بشق النفس، وتتطلع إلى الرقعة الخضراء المضطربة على السقف، مصغية إلى الصراخ لتجد عدوها الذي يمنعـ.ـها أن تعيش.. ذلك هو الطفل!
وتضحك. ويأخذها العجب كيف غابت عن فهمها هذه المسألة البسيطة من قبل. وبدت الرقعة الخضراء، والظلال، والصرصار، وكأنها تضحك وتتعجب أيضاً. ويستولي هذا الوهم على فاركا، فتنهض من مجثمها، وتذرع الغرفة، وقد اتسعت عيناها وزايلها النعاس، وطَفت على وجهها ابتسامة عريضة. إنها تستشعر الراحة والابتهاج إذ تفكر أنها ستتـ.ـخلص مباشرة من الطفل الذي يقيد يديها ورجليها لتـقـ.ـتل هذا الطفل ولتنم بعدئذ، ولتنم، ولتنم!...
وتقترب فاركا من السرير، ضاحكة، غامزة بعينيها، ملوّحة بأصابعها إلى الرقعة الخضراء، وتنحني على الطفل. حتى إذا خَنـَ.ـقَته، أسرعت إلى الإستلقاء على الأرض، وضحكت سعيدة بأنه قد صار في ميسورها أن تنام... ولا تنقضي دقيقة واحدة حتى تكون قد نامت نوماً هادئاً عميقاً كالأمـوات...!
-تمت-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى