سعد عبد الرحمن - شاعر القطة الصغيرة

حين كنت طفلا في بداية مرحلتي الابتدائية حفظت مع زملائي في الفصل نشيدا بسيطا قليل الكلمات بعنوان " قطتي صغيرة " تقول كلماته:
قطتي صغيرة .. واسمها نميرة
شعرها طويل .. ذيلها قصير
لعبها يسلي .. وهي لي كظلي
عندها المهارة .. كي تصيد فارة.
لم يكن النشيد مقررا من مقررات كتاب المطالعة والمحفوظات أو " القراءة الرشيدة " كما كان يسمى أيام تلمذتي الباكرة ولكننا حفظنا النشيد في حصة الموسيقى على يد مدرسها الذي علمنا كيف نغني النشيد ملحنا على أنغام الأكورديون وهو يعزف عليه اللحن، لم يقل لنا مدرس الموسيقى أو غيره اسم مؤلف النشيد الذي مازالت كلماته البسيطة عالقة بذاكرتي وذاكرة أجيال قبل جيلي وبعده، ولا أدري ما السبب في إغفال التربية والتعليم في أغلب الأحيان أسماء مؤلفي أغاني وأناشيد الأطفال، حتى ما هو مقرر منها بكتب المطالعة والمحفوظات لا تجد ذكرا لاسم المؤلف مثل نشيد الدعاء ومطلعه " يا ربنا يا ذا الكرم .. يا واهبا كل النعم " ونشيد الصباح ومطلعه " تشقشق الطيور .. فرحانة بالنور " ونشيد الفلاح ومطلعه " احمل الفأس وهيا .. نزرع الأرض سويا " وغيرها ، هل لأن الشعر الموجه إلى الأطفال في نظرهم أقل قيمة من الشعر الموجه إلى الكبار؟، لم يقل لنا أيضا مدرس الموسيقى اسم ملحن النشيد، ربما لأن ذلك كان أمرا أكبر من إدراكنا في ذلك الوقت.
على أية حال لقد فوجئت في أثناء تصفحي مجلد السنة الأولى ( 1932 ) من مجلة " أبولو " الشهيرة لصاحبها الدكتور أحمد زكي أبي شادي بنشيد القطة منشورا في عدد نوفمبر بعنوان " قطتي " وتحتها كتبت عبارة " لرياض الأطفال " والنص مكون من أربعة أبيات وقد نشرت المجلة صورة المؤلف وقبلها بيتان من النص وبعدها بيتان، وتحت الصورة اسم المؤلف: أحمد خيرت، والخلاف بين النص كما حفظناه والنص كما نشر يتعلق بثلاث كلمات فـ(نميرة) في النص المحفوظ هي (سميرة) في النص المنشور، ولا أدري كيف تحولت سميرة إلى نميرة ؟ و"تظهر المهارة" نجدها في النص المنشور (عندها المهارة)، و(كي) في جملة " كي تصيد فارة " نجدها (أن) في النص المنشور ولا أدري أيضا سبب التغيير، هل ( كي ) أبسط وأسهل من ( أن) في عرف المسؤولين عن وضع مقرر المحفوظات؟!، وربمايكون الشاعر - إذا أحسنا الظن بأؤلئك المسؤولين - هو من أحدث تلك التغييرات بالنص في مرحلة لاحقة على نشره بمجلة أبوللو وهو في رأيي الاحتمال الأرجح.
وأحمد خيرت صاحب نشيد قطتي سميرة أو نميرة الذي لا يتذكره أحد الآن جدير بأن نتذكره ونكتب عنه وعن نبوغه وعن تراثه الضخم من الأناشيد والألحان، هو شاعر وموسيقي ومرب صاحب مشروع طموح للمحفوظات الشعرية الملحنة وهو أيضا شخصية وطنية ساهمت بدور لا ينكر في أحداث مصر الوطنية خلال ثورتين: ثورة 1919 وثورة 1952، وبالإضافة إلى ذلك كله هو مكتشف مواهب من طراز فريد.
ولد الفنان الكشكول أحمد خيرت في 24 مايو عام 1899 بحي السيدة زينب في القاهرة، وتخرج في مدرسة الزراعة العليا بعد أن حصل على دبلومتها وكان إبان دراسته الثانوية عضوا في لجنة الطلبة لثورة 1919، يصفه الأستاذ أنور الجندي في كتابه " أعلام وأقلام " بأنه كان آنذاك: " صغير الحجم رقيق الجسد دقيق الحس عاطفيا عصبيا لا يهاب ولا يخاف ينتقل من مكان إلى مكان ومعه سلاحه؛ سلاح الكلمة وقد غذى الثورة بأناشيد ثورية كانت كلماتها تتردد والصفوف المتراصة تتحرك بين الأزهر ونادي المدارس العليا، وفي خلال التجمعات وأشهرها مما لا يزال يذكره من شهدوا هذه الفترة ":
بني النيل هبوا وكونوا يدا .. وردوا عن النيل كيد العدا
ولا تحسبوا ما بذلتم سدى .. وصونوا جلال الفدى بالفدا
ويحكي أنور الجندي أن أحمد خيرت كان مشبعا بروح الثورة، وقد استثمر موهبته الشعرية في شحذ همم الثائرين فكان يلقي أناشيده بين الجماهير الحاشدة المتدفقة عبر شوارع القاهرة تنادي بالحرية وتهتف " الاستقلال التام أو الموت الزؤام " وهو متنكر يلبس أسمال الشحاذين البالية ويصطنع أساليبهم في استعطاف الناس ولذلك أطلقوا عليه لقب " شحاذ القرن العشرين "، وكان يفعل ذلك كيلا تقبض عليه سلطات الاحتلال الإنجليزي وتزج به في السجن، ولم يكن الشحاذ الثائر يلقي أناشيده كما تلقى الخطب والكلمات الحماسية المنثورة فتأثير ذلك في النفوس محدود بل كان يلحنها ويلقيها على الأسماع منغمة مما جعلها تسري بينهم سريان النار في الهشيم فترددها حناجرهم وهم سكارى بنشوة الثورة، كما يحكي الدكتور نبيل الحفني في كتابه " العصر الذهبي للغناء المصري .. مواقف وحكايات " كيف أن الأطفال و الصبية كانوا يجولون في الشوارع و الأزقة المجاورة لبيت الزعيم سعد زغلول وهم يغنون نشيد " يحيا سعد " الذي ألفه ولحنه أحمد خيرت ولقنه لهم ، ولكن في نهاية الأمر لا بد مما ليس منه بد فقد اعتقل أحمد خيرت أكثر من مرة في أثناء الثورة بل وبعدها وكانت تجربته الأخيرة مع الاعتقال والسجن حين قام مجموعة من الشباب الوطني ومنهم الأخوان عنايت: عبد الحميد وعبد الفتاح ( أعدم الأول وحكم على الثاني بالسجن المؤبد ) باغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم عام السودان في نوفمبر عام 1924، وقد ساهم أحمد خيرت في سنوات الثورة منذ اندلاع شرارتها في نهضة الفن المسرحي فنظم ولحن منفردا أحيانا ومع بعض زملائه من هواة الفن أحيانا أخرى عدة أعمال فنية في سياق دعم الثورة ومواكبة أحداثها بل وشارك في التمثيل أيضا ومن تلك الأعمال مثلا الرواية المسرحية " أحمد وحنا " التي يدل عنوانها على موضوعها وذلك على مسرح الأوبرا، ومن مثل أوبريت " أدي يومنا " التي قام بتأليفها وتلحينها مع زملائه أعضاء نادي منتخب المدارس وذلك على مسرح جورج أبيض، وقدم أعمالا أخرى على مسارح كثيرة منها نادي إحياء التمثيل العربي والنسر العربي والمعارف وغيرها.
وعندما هدأ بركان الثورة استقرت الأوضاع السياسية والاجتماعية بعض الشيء وأخذ الناس يلتقطون أنفاسهم التي أوجعها اللهاث، عندئذ انغمس أحمد خيرت في تيار الحياة المستقرة وراح يواكب الظروف المستجدة بإبداع يتناسب معها وانتقل من عمله مدرسا بالمدرسة الزراعية في شبين الكوم إلى العمل بلجنة الفنون الجميلة في وزارة المعارف العمومية مما أتاح له فرصا أوسع في السعي من أجل تحقيق مشروعه " المحفوظات الملحنة " وهو مشروع يقوم على دعامتين أساسيتين بل دعامة واحدة هي البساطة، البساطة في أسلوب كتابة الأناشيد والمحفوظات من أجل أن تكون سهلة في حفظها وترديدها، والبساطة في طريقة تلحينها بالبعد عن الطريقة القديمة التي تعتمد على التخت ولا تصلح للأطفال والنشء، ولكن مشروع أحمد خيرت كان مشروعا طموحا احتاج إلى ميزانية كبيرة لتطبيقه في جميع المدارس هذا فضلا عما واجهه من العراقيل البيروقراطية المعروفة في دولاب الدولة المصرية، ولهذا اكتفى بتطبيقه في مدارس القاهرة فقط.
ولأن أحمد خيرت صاحب موهبة كبيرة أشبه ما تكون بالظواهر الطبيعية الجبارة التي من الصعب الوقوف في وجهها وعرقلتها ويؤمن بدور الفن في تربية النشء وتزويدهم بغير طريقة التلقين كل ما يحتاجون إليه في مقتبل حياتهم من معلومات وقيم ومبادئ فقد واصل رسالته في كتابة النصوص الشعرية البسيطة للأطفال و تلحينها، و واصل مواكبة الأحداث الوطنية المصرية والعربية بهذه النصوص وألحانها منفعلا معها ومعبرا عن روحها، ونذكر - على سبيل التمثيل لا الحصر - من نصوصه التي تربو على ألف نص وتتنوع موضوعاتها تنوع جوانب الحياة تنوعا مدهشا: نشيد بني النيل، نشيد فلسطين لبيك، نشيد العلم، نشيد النسر العربي، نشيد الجزائر، نشيد الجندية، نشيد البحارة، نشيد الهجرة، نشيد المولد النبوي، أنشودة القطن، أنشودة الحجاج، نشيد مملكة النحل، أنشودة دعاء طفل، نشيد العزة الشماء، نشيد الطيران، نشيد البوليس، أنشودة الصياد، نشيد الشكر لله، أنشودة أفراح النيل، نشيد ياعم يا خباز، نشيد يا بائع الفطير وغيرها كثير جدا، وكل هذه النصوص وضع لها أحمد خيرت ألحانا جميلة وبسيطة تساعد على حفظها وترديدها ويمكننا أن نستشهد ببضعة نماذج من نصوصه كـ" نشيد الأم " مثلا ومنه قوله:
إلى الأم نهدي ندي الزهر .. وللأم ننشر خير السير
فكم ضمنا صدرها في الصغر .. وكم حاطنا ظلها في الكبر
رضاؤك يا أم حصن حصين .. دعاؤك يا أم فتح مبين
وأنت الحنان و أنت الحنين .. وأنت السعادة للعالمين
ومن " نشيد النسر العربي " نذكر قوله:
يا شعار الحمى .. اعل طول الزمن
ارتفع للسما.. أنت رمز الوطن
كلنا كلنا .. باذل للدما
كلنا كلنا .. حارس للحمى
ومن " نشيد الجندية " قوله:
جنود البلاد إلى المجد هيا .. وهبوا سراعا لنحمي الذمار
و إن مدفع الحرب دوى دويا .. فضموا الصفوف وخوضوا الغمار
جنود البلاد قياما قياما .. فأنتم لدينا المنى والرجاء
خلقنا كراما ونحيا كراما .. ونمضي كراما إذا الموت جاء
ومن " نشيد الأمة العربية " قوله:
للأمة العربية .. هتف الحماة وكبروا
بالعزة القومية .. وبالاتحاد سننصر
الله جمع شملنا .. وأتم نورا أنزله
فالمجد والعليا لنا .. والحمد والتسبيح له
الله الله .. له الحياة نسجد
الله الله .. لجنده مؤيد
ومن نشيد الجزائر قوله:
شباب الجزائر صدوا العدا .. وصبوا عليهم لهيب الردى
ونحن لكم إخوة في الفدى .. إذا ما دعينا أجبنا الندا
قهرتم بإيمانكم من عدا .. وأنتم أولو العز طول المدى
كان أحمد خيرت أول من أدخل الأناشيد الجماعية إلى ثقافتنا الفنية و ذلك عام 1928، فقد قام بتدريب أربعة آلاف طالب لمدة عشرة أيام على أحد نصوصه الملحنة فأدوها أداء جماعيا باهرا وكرر التجربة مرة أخرى على عشرة آلاف طالب، وقد قدم عشرات الاستعراضات الغنائية على الكثير من مسارح القاهرة وفي مقدمتها مسرح الأوبرا ومسرح معهد الموسيقى العربية، وقد أصدرت وزارة التربية والتعليم كتابا تضمن عددا كبيرا من نصوصه وبجوار كل نص نوتة اللحن الخاص به ووزع الكتاب على أغلب المدارس الابتدائية إن لم يكن كلها، ولذلك فقد كانت تلك النصوص وألحانها البسيطة الجميلة الزاد المفضل لمدرسي الموسيقى في رياض الأطفال وسني المرحلة الابتدائية الأولى لسنوات طويلة.
وكان أحمد خيرت أحد أهم الشعراء والفنانين الذين قام على أكتافهم النشاط في ركن الأطفال بالإذاعة المصرية وازدهر منذ نشأتها عام 1934، وقد تعاون أحمد خيرت مع شتى المسؤولين عن هذا الركن في كل عهوده: عهد أبله زوزو وعهد بابا صادق وعهد بابا شارو وعهد أبله فضيلة وقدم من خلال هذا الركن عشرات النصوص مع ألحانها وشكل بحسب كلام صافيناز كاظم ( مقالة بموقع المصري اليوم في 22 نوفمبر 2009 ) فرقتين هما: " بيت الفن " و" عش العصافير " وضم إلى هاتين الفرقتين العديد من المواهب الفنية الصغيرة التي اكتشفها وفي مقدمة تلك المواهب على سبيل المثال لا الحصر الأختين نجاة الصغيرة وسعاد حسني، فقد كان أول ما غنته نجاة الصغيرة نجمة فرقة " بيت الفن " وهي طفلة من تأليف وألحان أحمد خيرت، ومما غنته مثلا: نشيد الحج " طوفوا ببيت الله " الذي أذيع في برنامج " حديث الأطفال " الذي كان يشرف عليه ويقدمه الأستاذ محمد محمود شعبان " بابا شارو " وذلك بمناسبة الاحتفال بعيد الأضحى في الخامس من نوفمبر 1946، كما غنت له نشيد الهجرة " يا هجرة المختار " الذي أذيع بمناسبة الاحتفال برأس السنة الهجرية في 26 نوفمبر 1946، وغنت له نشيدين آخرين عام 1947 هما " الله في علاه " و" إلى اللقاء "، أما سعاد حسني التي كانت في فرقة " عش العصافير " فقد غنت له أيضا وهي طفلة العديد من الأناشيد من خلال برنامج " حديث الأطفال "، فقد غنت له مثلا وهي في سن الثالثة من عمرها: " طولي شبر .. ووجهي بدر / صوتي سحر .. وكلي بشر " وغنت أيضا: " من علم الخروف .. أن ينطق الحروف "، كما غنت له: " أنا سعاد، أخت القمر .. بين العباد، حسني اشتهر "، ومن الواضح من كلمات الأغنية أنها كتبت خصيصا لها فبالإضافة إلى ذكر اسمها صراحة جاء اسم أبيها " حسني " بطريق التورية، وقد حكت سندريلا السينما المصرية في أحد الحوارات الصحفية التي أجريت معها فذكرت كيف قدمها الأستاذ أحمد خيرت إلى بابا شارو على أنها اكتشاف له شأن، وبالمناسبة أحمد خيرت هو زوج سميرة الأخت الكبيرة للسندريلا، ولعل هذا هو السبب في أن قطته الصغيرة كان اسمها " سميرة " كما جاء في النص المنشور بمجلة أبولو .
عمل أحمد خيرت طول حياته في حقل التربية والتعليم، وبرغم أنه في الواقع لم يكن مشغولا بغير الفن فقد ترقى حتى صار المفتش العام لنشاط الموسيقى على مستوى الوزارة وخرج إلى المعاش عام 1959، ووافته المنية - رحمة الله عليه - في أحد أيام شهر إبريل عام 1965 عن عمر يناهز ستة وستين عاما فأسدل بذلك الستار على حياة شخصية وطنية من طراز فريد أعطت في سخاء أجيالا عديدة من النشء في سنيهم الباكرة كل ما فاضت به موهبتها من فن: شعرا وموسيقى من أجل وطن أرقى وأبهى .



تعليقات

(قطتي صغيرة) من الاناشيد التي لا يمكن لاي جيل من الاجيال ان يمر من دون أن يحفظها ويرددها، ويترنم بها في المراحل الابتدائية الاولى.. وقد وصلتنا هذه المقطوعة بتصرف من طيب الذكر المربي المرحوم أحمد بوكماخ في تلاوة المستوى التحضيري (السنة الاولى ابتدائي)، وكنا نعتقد خطأ والى امد جد قريب بأن الأنشودة الشهيرة التي طالما استظهرناها وترنمنا بها في مراحل حياتنا الدراسية المبكرة من شوقيات الأطفال ومن نظم أمير الشعراء أحمد شوقي.. حتى نبهنا الأستاذ البحاثة سعد عبدالرحمن، من خلال هذا المقال البديع بأن المقطوعة لأديب مصري يسمى (محمد خيرت)، نشرها بمجلد السنة الأولى ( 1932 ) من مجلة "أبولو" لأحمد زكي أبي شادي..
القطعة خفيفة على النطق جميلة في ايقاعيتها على الاذن، وقد تغنت بها فرقة ناس الغيوان الشهيرة بمستهل مشوارها الفني ببدايات عقد السبعينات وكانت تلك أول محاولاتها مع أدب الطفل، وقدمت بالعديد من السهرات العمومية وتجاوب معها الجمهور بتلقائية كبيرة
 
أعلى