سعيد رفيع - مطاردة غرامية.. قصة قصيرة

لـم يحدث قط أن خلوت بنفسي في كافتيريا كلية الحقوق الا وانشقت الأرض عن فتحية لأجدها فوق رأسي : " صباح الخير يا ميدو .. ممكن أقعد معاك شوية ؟. "
لم تكن فتحية قبيحة فقط ، بل كانت سخيفة ومتصنعة الى أقصى الحدود ، فرغم أنها من بيئة بسيطة ومغرقة في شعبيتها ، الا أنها كانت تتصرف وتتحدث كبنات الطبقة الأرستقراطية ، وكان أشد ما أبغضه فيها هو ثقتها المفرطة في نفسها ، والتي لم يكن لها أي مبرر . وكثيرا ما دفعتني مطاردات فتحية الى التساؤل عن السبب الذي يجعلني جذابا للفتيات القبيحات ، دون غيرهن من الجميلات ، وهي عقدة قديمة شعرت بوطأتها منذ بداية فترة المراهقة ، ففي تلك الأيام أحببت ابنة الجيران الجميلة ، ولكنها لم تعرني التفاتا ، رغم محاولاتي المتكررة لجذب أنظارها ، في حين كنت دائم التهرب من فتاة أخرى قبيحة دأبت على مطاردتي بسيل من خطابات الغرام .
وفتحية أيضا هي التي أضطرتني في النهاية الى الاقلاع عن الجلوس في كافتيريا كلية الحقوق ، ووجدت في كافتيريا كلية الآداب المجاورة ملاذا أهرب اليه من مطارداتها السخيفة.
وفي كافتيريا الآداب رأيت سامية لأول مرة ، التي بدت لي جميلة وأنيقة بغير ابتذال ، فرحت أرقب حركاتها وسكناتها ، فلاحظت أنها دائمة الجلوس الى فتاة أخرى أقصر منها قامة ، وشاب وسيم مفتول العضلات .
أول ما فكرت فيه هو أن أسأل النادل عن طبيعة العلاقة التي تربط بين ثلاثتهم ، وتمهيدا لذلك شرعت أجزل له البقشيش ، وكان لطريقتي هذه مفعول السحر على النادل ، فراح يؤثرني بمعاملة متميزة ، وتوارت من عينيه تلك النظرات المتوجسة ، التي كان يرمقني بها أول الأمر ، لتفسح مجالا لنظرات أخرى ودية .
ونظرات النادل الودية تلك هي التي شجعتني ذات صباح على أن أسأله عن الفتاتين والشاب الذي لا يفارقهما ، فهمس في أذني أن الشاب هو عصام ، والفتاة الطويلة هي سامية ، أما القصيرة فتدعى نادية ، كان هذا هو كل ما باح به ، ثم انصرف دون أن يتفوه بالمزيد .
وفي اليوم التالي مباشرة وجدتني أنساق الى كافتيريا الآداب ، وقد عزمت على أن أجذب انتباه سامية بأي ثمن ، ولكن عندما أشرفت على الكافتيريا رأيت طالبين يتعاركان ، أحدهما عصام ، الذي كان مشمرا عن ساعديه ، وهو يشبع الطالب الآخر بلكمات متتابعة في وجهه ورأسه ، حتى سالت منهما الدماء ، ثم تدخل بعض الطلبة ، ففصلوا بينهما ، وانصرف عصام وهو يهدد ويتوعد ، ومن خلفه سارت الفتاتان . وجدت في تلك الحادثة فرصة مواتية لاستنطاق النادل ، الذي تطوع هذه المرة ليخبرني أن عصاما هو الذي بدأ المعركة ، بعد أن تحرش الطالب الآخر بشقيقته سامية ، ثم أضاف ، وهو يرمقني بنظـرة رأيت فيهـا تحذيـرا مستتـرا : " علـى فكـرة .. عصام هو بطل الملاكمة في الجامعة " .
كانت تلك آخر زيارة لي لكافتيريا الآداب ، فبعدها مباشرة عدت أدراجي لكافتيريا الحقوق ، وكأن فتحية كانت على موعد معي ، اذ كانت أول من استقبلني : " انت كنت غايب فين يا ميدو ؟! " ، وتعبيرا عن سعادتها عرضت أن تدعوني لتناول كوب من عصير البرتقال ، ولكني رفضت الدعوة ، بل وصرخت في وجهها بأنني أكره البرتقال ، بل وأكرهها أيضا .
وبالطبع لم أفاجأ في نهاية العام عندما قرأت اسمي ضمن الطلبة الراسبين ، ولكن شعوري بالاحباط سرعان ما تلاشى أمام شعور غامر بالبهجة ، بعد أن رأيت اسم فتحية يتصدر قائمة الناجحين ، فأيقنت أنها انقشعت من حياتي بلا رجعة ، ولكن شعوري بالبهجة لم يستمر طويلا ، فبعد أن حصلت على ليسانس الحقوق في العام التالي ، حالفني الحظ في العمل باحدى الجهات الحكومية ، التي فوجئت بأن فتحية موظفة بها أيضا .
قابلتني فتحية ببرود شديد في أول الأمر ، ثم تجاهلتني تماما بعد ّذلك ، ولم يثر ذلك دهشتي ، فقد أسرفت في تجاهلها من قبل ، ولكن ما أدهشني هو أن فتحية لم تبد لي قبيحة كما عهدتها ، بل بدت لي على درجة معقولة من الجمال ، وبدلا من أن أقابل تجاهلها بتجاهل مماثل ، وجدتني أشرع في مطاردتها دون أن أدري ، ولكنها لم تستجب لمطاردتي ، بل أسرفت في صدها وتجاهلها لي ، وفوتت كل محاولاتي للأنفراد بها ، ولكني نجحت في النهاية في الاختلاء بها في المصعد ، وذكرتها بحبها القديم لي ، فما كان منها الا أن ابتسمت ساخرة ، ثم لوحت لي بأصبعها المحاط بخاتم الخطوبة .
ورغم أن ذلك كان كفيلا بانصرافي عنها .. الا أنني ازددات اصرارا على مطاردتها .. حتى اكتشفت فيما بعد أن قصة خطبتها كانت ملفقة .. وأن خاتم الخطوبة الذي لوحت به في وجهي كان مستعارا من احدى صديقاتها .. فتحية نفسها هي التي اعترفت لي بذلك .. ونحن نحتفل بعيد زواجنا الخامس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى