مهند يونس - غرامافون للسيد سين

كان السيد سين مهووساً بجمع الاسطوانات الموسيقية، لقد كان يمتلك حساً موسيقياً مرهفاً، ورغم ذلك فلم يتعلم الموسيقى أبداً. كل حبه للموسيقى تمثّل في الاستماع لها. كان يستمع كأنه يصلّي، الموسيقى الكلاسيكية بالذات. في منزله الصغير جداً، دائماً ما كان يُسمع من داخله صوت الإذاعة الكلاسيكية ليل نهار. يستيقظ ليسمعها، ويسمعها لينام. كان يكره عندما يصرخ الأطفال في الشارع عندما يسمع لحناً موسيقياً مفضلاً، يخرج لهم ويلعن أباءهم، داباً الذعر في قلوبهم، ثم يصفق الباب. كان أيضاً مهووساً بتسجيل أسماء القطع الموسيقية التي تعجبه، لديه أطنان من المذكرات التي دوّن فيها عناوين القطع، ومؤلفيها، وأفضل أداءاتها المسجلة. مثلاً لم يكن يطيق سماع المون لايت سوناتا سوى بأداء فلهلم كلمف. وكلما سنحت الفرصة، كان يصرف كل ما يملكه على شراء الاسطوانات، رغم أنه لم يكن يملك غرامافوناً، لكن كان يجمع الاسطوانات، يصفّها، ويمسح عنها الغبار كل يوم، وإذا ما سمع صوت إحدى المقطوعات عبر الراديو، يهرع للبحث عن اسطوانتها لديه، لو كانت موجودة، يخرجها من غلافها ويمسكها بين يديه، ويمرر أصابعه على حدودها السوداء الناعمة الحادة. أما إن لم تكن موجودة، فإنه يسجل اسمها في المذكرة. لم يكن أي من جيرانه يعرف عنه شيئاً، ولا أين يعمل، بل لم يره أحد يتعدى عتبة بيته بضع خطوات. حاك الناس قصصاً أسطورية حوله، أشهرها أن هناك نفقاً تحت بيته، منذ سنين الحرب، يتسلل منه إلى خارج المدينة. ويقول البعض إنّه أحب فتاة في شبابه كانت تحب الموسيقى، سافرت وودعته، ولم يرها منذ تلك اللحظة. هذا ما يقوله الناس، والناس بطبيعتهم لا يحتملون العيش مع مجاهيل دون نسج القصص عنها. في إحدى المرات، كان يلعب الأطفال بالقرب من باب منزله، حذروا بعضهم من الاقتراب، لكن الصخب زاد، ولم يخرج لهم العجوز المخيف. نعم، لقد مات في النهاية، كما يموت الجميع، لم يعرف أحد أي مقطوعة كان يسمع في لحظاته الأخيرة وكيف مات. على مكتبه وجدوا ورقة متهالكة القِدَم، فيها رسمٌ لغرامافون، وتحته توقيع: مع حبي.
* قصاص فلسطيني من غزة، انتحر في 2017 ــــ قصصه الكاملة في طور التجميع، صدر منها جزء يسير فقط تحت عنوان: الآثار ترسم خلفها أقداماً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى