يحيى القيسي - فضاءات مثقوبة..

[HEADING=3]الِمشْكاةُ التي فيها المِصباح تُحشرجْ . ضوؤك ناس. لا زيتَ في الزجاجة …ولا الفتائل مرويّة..!
القمرُ ذهبَ هذه الليلة ليضيىء جهات أخرى، وبيوت القرية لم تغفُ بعد..!
ثمّةَ تبّانُون، ودرّاسُون،وحطّابُون،ورُعاةٌ مُتعبون،يجرّونَ أنفسهم على الطريق المتربِ الملتَوي، مع حميرٍ مثقلةٍ بأحمال الرجوع..!
ثمَّة قُطعان من الماشية بأجراسٍ نُحاسيَّةٍ، وأبقارٍ.. وكلابٍ سلوقية.
القرويُّ الذي بالباب يُنادي :
– يا امرأة هيئي قِرىً للضيف.
شبحُ امرأةٍ يقتربُ منه :
– ولكن يا زوجي العزيز… لا دجاجة عتيقة في الحوش كي نذبحها، ولا بيضات نقليها بسمنِ البقر، وحَساءُ العدسِ الذي في الطنجرة شربه أولادنا العفاريت.
أيّة حُفرة سقطنا فيها يا راعي البيت…؟!
– يا امرأة …أسمع ثغاء عنزتنا الخَرِفة في الزريبة..!
– ليُميتني الله إن كان في ضرعها الضامر نقطة حليب…ولا حتى لسخالها الجوعى..!
– يا الهي ..انظري ثمة ضوء في بيت جيراننا..أوه ألا تشمّين يا امرأة رائحة الخُبز المهبَّى فوق الطابون المجمَّر. خبزٌ مدهونٌ بزيت الزيتون، ومنمنم بالقِزْحة والسُمسم .
إذهبي وقولي لهم : قريبٌ دقَّ بابَنا الليلة وعجينُنا لم يختمر بَعدْ..!
– سأروح يا رجل ولينشف ماء وجهي أمام جارتنا العجوز، ولا ترتعشُ يداك أمام ضيفك. قل لي بحقّ الإله من أيّ الجِهات أرسلتهُ إلينا السماء هذه الليلة، وما يبغي من مُعدمين، لا حنطة في مخازنهم، ولا ثيران أو خِراف ليبيعوا. وجْهُهُ ساكنٌ كما الميّت،وسرُّه في صناديق مقفلة…!
– لأيّ شيءٍ تتلكئين يا امرأة ….؟ ومتى تعلمت المِراء …؟ . أغربي الآن وليدقّ بابنا كلَّ ليلة مِئةٌ من الطُرّاق..!
المرأة راحت مسرعةً،والسَّماء في الأعالي تُهيؤ نفسها لتبكي، والريّاح ذئابٌ جائعة تعوي . ذُبالة المِصباح ترنّحت كثيراً ثمَّ شهقتْ ميّتة.
القروي يغطسُ في ظُلمة الغُرفة:
– أوه ضيفنا العزيز…ليطفأ الله نور عيني ولا ينطفىء سِراجنا أمامك..سأبحثُ عن قبسٍ كيْ نَرى ونصطلي، ريثما تأتينا المرأة بمرقٍ ساخنٍ، وأرغفةٍ مُحمَّرة، ولكن قل أيّها الغريب: أيُّ شيءٍ هذا الذي يلمع ناحيتك..؟
صمتك عجيب وهمهماتك مبهمة…!
الغريب انتفض فجأةً…تحرَّك أخيراً بعد سُكونه، والقرويُّ يثقبُ الفضَّاء بصرخته :
– آه…..آه.. لأي شي يغوصُ خِنجرك في صدري أيّها الضَّيف…؟
الذين أرسلوك إليّ…أخطأوا …!
لا فلاحين ذبحتُ من قبل، ولا عذارى فضضتُ أبكارهن، ولا ماعز لدي كي ترعى زرع المخاتير !
آه…آه..البيادرُ التي أُحرقت ليستْ من نَّاري. ربَّما ملثَّمون جاؤوا ذات ليلةٍ وحلُّوا أربطة الخيل التي سُرقت من القُرى، ربَّما قاطعوا طُرق، وبدوٍ غُزاة أشعلوا القَشَّ ومضوا…
آه …آه..
وثلاثين امرأة ينُحن فوقَ قبري ..وثلاثين ثكلى يسكبنَ عليك اللعنات ما رأتك عينايَ من قبل أبداً، فقل لي إذاً قبل أن أموت لأيّ النَّزوات فقط يُقطّعُ شِفارُ خنجرك لحمي؟
أوه يا امرأتي العزيزة…على أيّ الأبواب تدقين الآن وبعلُك يستحمُّ في دمه..؟
الغريب بعد طعناته القاتلة، مسح خنجره، ولفّ عباءته، وقبل أن يُوليّ ذائباً في السَّواد نثر كلماته مثل زُجاج مُهشَّم فوق رأس القروي المحتضر :
– قبيلتك…..أبي…………قبل عشرين سنة ………………………….. دمه…………………………….….ث …أ….ر…..ه


* قصة لم تنشر من قبل في مجموعة قصصية . كتبت عام 1991


https://thaqafat.com/2022/08/100520[/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى