سعيد رفيع - الست هانم

ارتدت روائح ثقيلة ، وانسابت ريح طيبة كأنما تهب من الجنة ، ثم اشرقت بهية الطلعة .. وارفة .. باهرة العينين .. فاستطالت رقاب وفغرت أفواه ، وحاصرتها الأعين النهمة من كل صوب :
- عندكو بيرة ؟
- فيه بيرة من غير كحول .
- مافيش من التانية ؟
- للأسف مافيش يا هانم .
ترددت لحظة ، ودارت بناظريها في أرجاء الكافتيريا ، ثم حررت شعرها من مشبك أحمر على شكل ثمرة الفراولة ، فانسدل الشعر على صدرها وظهرها ، ثم جذبت أحد المقاعد وجلست مستندة برأسها إلى الحائط .
منذ أن عمل في هذه الكافتيريا وهو يقوم على خدمة ركاب السيارات .. ممن يتوقفون للراحة وتناول الطعام والشراب قبل أن يستكملوا رحلتهم شمالا إلى القاهرة أو جنوبا للغردقة ، وذلك بعد أربع سنوات قضاها عاطلا بلا عمل ، ولأن أباه قد دأب على معايرته بأن اليد البطالة نجسة وأن أخوته الصغار أولى بالإنفاق عليهم من « شحط » مثله ، فقد اضطر لقبول العمل في كافتيريا المعلم حسنين ، اثنی عشر ساعة متواصلة يوميا ، ولستة شهور متتالية ، لم يكف خلالها عن استجداء صفحات الجرائد بحثا عن وظيفة أخرى ملائمة .. مدرس في مدرسة ، أو أخصائي اجتماعي في إحدى الإصلاحيات الإجتماعية ، وكان يفضل الوظيفة الأخيرة بالذات لأنه تخصص في علم الإجتماع ، كما أنجز في السنة الأخيرة من دراسته الجامعية بحثا قيما حاز على إعجاب أساتذته كان موضوعه : "كيفية تعديل سلوك الأطفال المنحرفين"
وكان أكثر ما يسبب له الضجر في عمله في الكافتيريا هو المعلم حسنين نفسه ، الذي كان يضطهده ويتصيد له الأخطاء ، والذي دأب على حرمان العمال حتى من البقشيش الذي يدسه الزبائن في أيديهم ، إذ كان ينتزعه منهم ويضعه في صندوق ، يحكم إغلاقه بقفل كبير ، وذلك بدعوى أنه سيقوم في نهاية كل شهر بفتح الصندوق وتوزيع البقشيش على العمال بالعدل ، وكان المعلم يقوم بذلك فعلا ، ولكن بعد أن يختلس لنفسه معظم البقشيش .
ورغم أن عمله بالكافتيريا أتاح له الإحتكاك بأنماط شتی من البشر ، إلا أن تلك الهانم ، والتي ترجلت بمفردها من سيارة مرسيدس ، قد لفتت أنظاره إلى أقصى حد، إذ كانت ترتدي فستانا قصيرا مشجرا يبرز استدارة الجسد ، وينشر من مفاتنه أكثر مما يستر ، كما أن مكياجها الفاقع ، وعلبة السجائر الأجنبية ، والولاعة المذهبة التي راحت تقلبها بين أصابعها ، كانت كلها تشي بأشياء كثيرة تثير الفضول .
- هنيا يا هانم
- مرسی
التقط زجاجة البيبسي الفارغة من أمامها ، ومشى بضع خطوات ، فتعقبه صوتها :
- بست .. بست .. إنت یا ..
عاد أدراجه إليها ، فبادرته قائلة :
۔ فاضل کام کیلو على الغردقة ؟.
- حوالی ١٥٠ یا هانم
انتشى لصوتها ، وتمنى لو طال وقوفه أمامها ، إذ خيل إليه أنه رأى صورتها من قبل في التليفزيون أو على أغلفة المجلات ، فتناسي التحذير الذي لا يكف المعلم حسنين عن ترديده بأسلوبه الفج : « ممنوع الجلوس أو الرغي مع الزبائن » ، فسألها وهو يغالب الفضول :
۔ حضرتك مسافرة فسحة ؟
- لا . شغل .
- هو حضرتك بتشتغلي في الغردقة ؟
- أيوه.
لفه الصمت برهة ، وتلفت حوله في حذر مشوب بالقلق ليطمئن إلى عدم وجود المعلم حسنین ، فوقعت عيناه على زملائه وهم يغمزون ، ویلمزون ، ومع ذلك أبی أن ينصرف إلا بعد أن يشبع فضوله تماما :
- هو حضرتك بتشتغلي إيه ؟
- تعرف قرية فل سيزون ؟
- طبعا .. دي قرية سياحية مشهورة .
- أنا ليا بروجرام فيها .
- بروجرام إيه يا هانم ؟
- رقص شرقي.
ارتفع حاجباه رغما عنه ، وأطال النظر إليها ، فخيل إليه أنها شرعت تتجرد من ملابسها قطعة قطعة ، حتی خال أنه يرى تفاصيل وثنايا جسدها بوضوح تام ، فانتفضت خلاياه ، وشعر بأعصابه الملتهبة تغلى وتفور ، ورغم برودة الجو ، فإن الحرارة التي أخذت تشع من جسدها في تلك اللحظة جعلت العرق يتصبب من وجهه ، ثم دب الخدر في ركبتيه حتی أوشك أن يفقد توازنه ، فسارع بالجلوس کی لا يفتضح أمره .
وبالطبع لم يكن حينئذ في حال يسمح له بأن ينتبه إلى أن المعلم حسنین كان قد وصل منذ لحظات إلى الكافتيريا ، ثم أنزوى في أحد الأركان ليراقب في صمت ما يجري بينه وبين الهانم ، لذلك ما كادت الهانم تنصرف، حتى ارتجت الكافتيريا لصوته الجهوری : " تعالی یا أفندى" ، قالها المعلم ، وهو يلوح ببضعة أوراق تقدية :
- النهاردة كام في الشهر ؟
- عشرین یا معلم .
- خد حسابك ، وورینی عرض أكتافك.
أسقط في يده، وهم بأن يعتذر أو يطلب الصفح ، ولكنه فكر أن المعلم قد يغتنم اعتذاره ليسرف في توبيخه وإهانته ، فتملكه الغيظ ، وتمنى لو أمسك بأحد المقاعد ليحطمه فوق رأس المعلم ، ولكنه أدرك أن ذلك لن يجدي معه نفعا ، بل سيعرضه إلى متاعب هو في غنى عنها ، لذا أطرق برأسه ، ولم ينبس بكلمة ، وكان كل ما يشغله في تلك اللحظة هو كيف يواجه أباه بفصله من العمل ، ثم كيف يواجه فترة أخرى من البطالة قد تمتد شهورا وربما سنوات .
وعندما خطا خارجا ، كانت سيارة الهانم المرسيدس قد بدأت في التحرك ، فلم يدر بنفسه إلا وهو يعدو في أثرها كالملتاث : "یا هانم .. يا هانم" فلما توقفت ، أقبل عليها لاهثا ثم استجمع أنفاسه وقال :
- أنا آسف ياهانم .. أصل المعلم طردني من الشغل .
- وطردك ليه بقى ؟ .
- عشان كنت قاعد مع حضرتك .
- يا سلام !!
- هو ده اللي حصل يا هانم .
- معلهش .. تعالى الغردقة أشوف لك أي شغلانة .
- أنا مستعد أشتغل أي حاجة .. أنا مدردح وأعجبك .
- إنت اسمك إيه يا واد ؟
- محسوبك صبحی
كان الشاب يبدو "مدردحا" بالفعل ، كما كان وسيما ويفيض بالحيوية رغم كل الظروف ، لذلك لم تتردد الهانم طويلا ، إذ تأملته برهة ، ثم أومأت برأسها وقالت :
- في إنتظارك يا صبحي.. اوعي تتأخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى