سعيد رفيع - البـربونـي يتجـه شـــرقـا

لم يكن يشغله سوى رغبته في التعرف على موقع الممر ، ولكن المعالم القديمة اندثرت تماما ، اذ كان هناك شاطىء رملي تتناثر في أرجائها جحور الكابوريا ، وبقايا أعشاب وقناديل بحرية قذفت بها الأمواج ، وكانت عشة البوص تقع في مواجهة صخرة مرجانية تخترق حافتها المدببة الماء على بعد رمية حجر من الشاطىء ، وكانت المسافة المحصورة بين حافة الصخرة ورمال الشاطىء تشكل عرض الممر .
راح يتطلع في جميع الاتجاهات ، رجال ونساء بلباس البحر ، بعضهم يسترخي على مقاعد من الخيزران ، والبعض الآخر يتمدد فوق كنبات خضراء صفت على طول الشاطىء ، أما على الجانبين فقد قامت مبان وشاليهات شيدت من الأسمنت والحجر الفرعوني الأبيض ، وأمامه مباشرة لسان خراساني يشق البحر لمسافة بعيدة ، وعلى جانبي اللسان ترسو قوارب ودراجات مائية ويخوت من مختلف الأحجام والألوان ، حاول من جديد أن يتعرف على موقع الممر ، ولكنه أدرك عبث المحاولة ، فالصخرة المرجانية أقتلعت من جذورها على ما يبدو ، اذ لم تقم هذه القرية السياحية الا بعد أن ردمت جزءا كبيرا من البحر ، ثم عادت لتصطنع بالجرافات شاطئا جديدا عميقا .
عندما تهل طلائع البربوني كان أول من يشعر بها ، في بادىء الأمر يختلج سطح الماء اختلاجة خفيفة ، ثم تتعكر المياه الصافية ، بفعل احتكاك زعانف البربوني بالرمال الناعمة ، كان يحدث هذا دائما في الساعات الأولى من شهر يونيو من كل عام ، حين تبلغ شمس الغردقة تمام عزها وزهوها ، وتستبدل جبال جزيرة شدوان رداءها الشتوي الباهت بثوب أرجواني تتقي به وهج الشمس ، وبعد أول قفزة لسمكة بربوني فوق سطح الماء كان يولي وجهه غربا ليزف البشرى لبيوت الرشندية ، ومع أول خيوط الفجر التالي يكون كل صيادي الرشندية قد انضموا اليه ، وأغلقوا الممر بشباكهم في وجه البربوني ، أسراب كثيرة متعاقبة ، تأتي من الجنوب في نفس الموعد من كل عام ، وفي سيرها الحثيث تصطدم بحافة جزيرة جفتون الجنوبية ، فتعرج يسارا ، ثم تواصل سيرها بمحاذاة الساحل ، حتى تبلغ الممر ، لتعبره في طريقها صوب الشمال .
يستمر تدفق الأسراب حتى نهاية شهر أغسطس ، ثلاثة أشهر كاملة يدخر خلالها من بيع البربوني مبلغا من المال يكفيه لبضعة شهور لاحقة ، وفي نهاية الموسم تكون براميله الخشبية قد طفحت بفسيخ البربوني ، الذي يتقوت من بيعه بقية أشهر العام ، حياة سهلة لم تكن تتطلب جهدا يذكر ، مجرد نصب الشباك في الممر ، على بعد خطوات من الشاطىء ، فيرزقه الله بالصيد الوفير .
كانت أحلى ساعاته هي تلك التي يقضيها جالسا في عشته ، بعد العصر ، يرتق الشباك ، وينظفها من بقايا قناديل البحر وأعشاب القيصار ، ثم يتوسد الشباك ويتمدد ، وهو ينصت لصوت الأمواج وهي تتكسر فوق الرمال ، حينئذ كانت تتملكه في الغالب اغفاءة قصيرة ، يستيقظ منها عندما تشتد حركة الأمواج ، فتثير رذاذا منعشا ، سرعان ما يتطاير في الهواء ليحط على وجهه ، أو عندما تقترب الكابوريا منه أكثر من اللازم لتناوش أصابع قدميه ، فيروعها بأن يلقي عليها حفنة من الرمل أو بقايا قنديل بحري ، فتجري الكابوريا بسرعة مذهلة صوب البحر أو صوب جحورها أيهما أقرب .
هكذا كانت تمضي به الأيام طوال خمسين عاما ، حتى استيقظ ذات صباح على من يقتحم عليه العشة ليخبره بأن قرية سياحية كبيرة ستقام على هذه البقعة ، وأن عليه أن يبحث لنفسه عن مكان آخر : " هذه البقعة بالذات ! " .. " نعـم هـذه البقعة بالـذات " .. لم يكن ذلك عصيا على فهمه ، ولكن مالم يفهمه ساعتها ، أو مالم يشأ أن يفهمه هو أن يجد لنفسه مكانا آخر بعيدا عن البحر ، ولكنه أضطر أن يستوعب ذلك فيما بعد ، بعد أن لاحظ أنه كلما حاول أن ينصب عشته في بقعة ، هرع اليه من يزجره ، ويطلب منه أن يبحث لنفسه عن مكان آخر ، لأن قرية سياحية ستشيد في تلك البقعة ، هكذا أخذ يتنقل على الساحل من بقعة الى أخرى ، ثم لم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى كانت الأرض قد انشقت عن كتل خراسانية ، أخذت تصطف متلاصقة على الشاطىء لتحجب عنه البحر ، ولتقطع الطريق في وجه البربوني ، الذي قيل أنه هجر ساحل الغردقة وأتجه شرقا .
ومع هجرة البربوني الى الشرق هجر الصيادون شباكهم ، ليعملوا بحارة على متن اليخوت السياحية الفاخرة ، ولكن لأن صيادا عجوزا مثله ما كان ليغري أحدا باستخدامه أو توظيفه ، فقد وجد نفسه في النهاية يتعيش على صدقات الرشندية ، الذين لم يتكفلوا باعاشته فقط ، بل أقاموا له بينهم عشة بديلة كان أكثر ما يثير ضجره منها أنها أبعد ما تكون عن البحر .
حاول كثيرا جدا بعد ذلك أن يخترق هذه القرية السياحية بالذات ، التي تقع في مواجهة الممر ، ولكن كان هناك دائما من يحول دون ذلك ، شباب يرتدون قمصان وسراويل زرقاء ، وعلى اكتافهم شارات ، دأبوا على اعتراضه ، يسألونه أولا عن وجهته ، فلما يجيبهم بأنه لا يريد سوى أن يرى البحر ، كانوا يصدمونه بكلمة ( ممنوع ) ، فاذا تشبث برغبته ، قام أحدهم بدفعه أو شده من ثوبه الى قارعة الطريق ، ولكن اليوم لم يلحظه أحد ، وهو ينسل الى القرية بثوبه الباهت وبقايا حذاء في قدميه ، وهاهو يقف أخيرا على الساحل مباشرة ، يتنفس نسيم البحر ، ويعرك رأسه بحثا عن معالم قديمة لا زالت تسكن ذاكرته .
وكان من الطبيعي أن شخصا في مثل هيئته لابد وأن يلفت الانتباه ، اذ حاصرته عشرات الأعين ، وهو يمرق بين رواد القرية في اتجاه البحر ، ولكنه لم يأبه كثيرا لذلك ، اذ كان يعرف طريقه جيدا ، تماما مثل سلحفاة بحرية صغيرة خرجت توا من البيضة .. وحتى بعد أن تذكر الشبان ذوي القمصان والسراويل الزرق ، وخشي أن يفطنوا اليه ويخرجوه عنوة ، فانه لم يتراجع ، بل واصل سيره لا يلوي على شيء حتى بلغ اللسان الخراساني ، ثم تابع السير الى أقصى نقطة منه حيث المياه العميقة .
عندما بلغ غايته وألقى بنظرة مستكشفة في الماء ، لم ير سوى بقايا زجاجات وعلب فارغة تلتصق بالقاع .. انحنى قليلا وأخذ يمعن النظر بحثا عن أي أثر للحياة .. ثم اعتدل ، ورفع عينيه الى السطح ، وطاف بهما في شكل نصف دائرة ولكن دون جدوى .. حانت منه التفاتة الى الخلف .. وقعت عيناه مباشرة على شابين من ذوي القمصان الزرقاء يسيران حثيثا في اتجاهه .. لم يكد يلحظهما حتى سرت رجفة خفيفة في جسده ، وتبع الرجفة تنميل في فروة رأسه ، وأمتد التنميل ليغزو جلده كله ، وعندما حاول أن يهرش ، بوغت بخشونه مفاجئة في الجلد ، اذ انبلجت من بين ثناياه قشور وردية رقيقة ، وأنتشرت القشور سريعا حتى غطت جسده بالكامل ، ثم شعر برأسه يتبطط ، وبعينيه تنتقلان من مقدمة رأسه الى جانبيها ، وأخيرا صكت أذنيه طرقعة استحالت قدماه على اثرها ذيلا كبيرا ، وانشق جسمه عن زعنفة بطول ظهره .
أدرك في تلك اللحظة أنه استحال سمكة .. سمكة بربوني ضخمة على وجه التحديد .. ومن ثم فقد أيقن أن بقاءه على اليابسه لن يعني له سوى الموت المؤكد .. لذلك لم يكد يقترب منه الشابان حتى كان قد ألقى بنفسه في البحر ، وارتفعت سياط الماء البارد تلفح وجهه ورقبته ، فما كان منه إلا أن غطس في الماء .. وأمتدت أصابعه تتحسس موضع الخياشيم على جانبي رأسه .. فلم يجد لها أثرا .. ومع ذلك فقد واصل غوصه صوب الأعماق .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه القصة من بيئة الصيادين بعد دخول السياحة إلى البحر الأحمر.
١-الرشندية : قبيلة عربية شهيرة نزحت من البادية إلى الغردقة .. ويعمل أغلب أبنائها في الصيد.
٢-البربوني : نوع من الأسماك الشهيرة في مجتمع الصيادين في البحر الأحمر.



القصة من مجموعة البربوني يتجه شرقا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى