مناف كاظم محسن - تقمص

مرّ وقت طويل جداً وما يزال واقفاً بجانب النافذة، منصتاً لصوت المطر المنهمر بغزارة. لم تكن لديه الرّغبة في الخروج من المنزل. تمنّى أن يمضي اللّيلة قربها. يشرب قدحاً من الشاي منتظراً رحيل اللّيل بهدوء، بعيداً عن الخوف والتّرقب من هذا المجهول الذي ينتظره في الظلام.
- هل تتركني وحدي؟
أيّقظه صوتها من استغراقه الطّويل. متأمّلاً الطّريق الطّيني الّذي سيجتازه تحت المطر المتساقط والبرد القارص، والإحساس الخافت بالموت المؤجل الحاضر في كلّ لحظة.
- هل تتركني وحدي؟
التفت إليّها وأحسّ انّ شيئاً ما يتقلّص في معدته، حرارة تلتهب في داخلها، ربما. حرّك شفتيه فلم يخرج صوته. حاول أن يبقى صامتا. يقبّلها ثمَّ يخرج لقدره الذي ينتظره. كانت جالسة على حافّة السّرير، واضعة يديّها بين فخذيها وتحرك قدميها على الأرض هنا وهناك. رأسها منخفض، تتابع بعيونها حركات قدميها التي تتحرك كبندول ساعة قديمة.
- أنا خائفة .... ابق معي الليلة.
- يجب أن أذهب ... أغلقي الأبواب والنّوافذ.. وأضيئي المنزل فيتلاشى خوفك.
- ألا تستطيع أن تبقى؟
- لا أستطيع.
خرج من المنزل، لم يكن أمامه غير أن يجتاز الطّريق الطّيني الطويل، في هذه القرية النائية. المطر غزيراً، والظّلمة قاتمة. لا شيء سوى صوت الرّعد ونباح الكلاب وصفير الريح. وخطواته المغروزة في الوحل.
بقيت وحدها، تجترّ أفكارها المخيفة، جالسة على حافّة السّرير. واضعة يديّها على رأسها. لم تعرف كم مرّ عليّها من الوقت. امتلئ رأسها بصور مشوشة. أخيراً أرتمت على السّرير، منصتة لانهمار المطر الذي يطرق الأبواب والنّوافذ. إيقاع رتيب، نغمات خافته، متواصلة مع وقع الرّعد الثّقيل والبرق الخاطف. نباح الكلاب يرتفع بين فترة وأخرى، يشارك في هذا اللّحن المخيف الّذي لا ينتهي. أغمضت عينيّها وحاولت أن تغفو، أن تهرب من الخوف الجاثم على صدرها. لكنّها تذكّرت بشدّة تلك الحكاية القديمة التي حكتها جدّتها لامّها في ليلة من ليالي الشتاء، سمعتها عندما كانت طفلة نائمة قرب إمّها، دون أن يعرفا أنّها مستيقظة، تنصت وتتخيّل كلّ كلمة تنطقها جدّتها. عن تلك المرأة التي يتركها زوجها وحدها في ليلة ممطرة، في تلك القرية النائية، بين أنياب الأشباح الشّريرة. إنّها الآن تتخيلها وتشعر بخوفها ورجائها لحظة بلحظة، بواقعية مشؤومة. كأنّها تقمّصت روحها، أرتفع وقع الأقدام خارج المنزل. ثم طرق عنيف على الباب الخشبي. طرق متواصل. مع همهمات وأصوات مخيفة، دمْدَمَة الريح، زمْزَمَة الرعد، وحفيف الأشجار المبلولة بماء المطر. ربما حاصر زوجها المطر فعاد مسرعاً، فكّرت ثم نهضت ببطء تلفّها العتمة. لم تفكر أن تضيء أنوار المنزل، واكتفت بتلمّس الجدران والإنصات لصدى خطواتها المترددة. كانت المسافة الى الباب تمتد أمامها الى ما لا نهاية. أستمر طرق الباب بانفعال شديد. خافت أن تفتح الباب، وسألت (من الطارق؟) لم يرد عليها واستمر يطرق أكثر وأكثر. ازداد خوفها وحاولت أن تعود لغرفتها، لكنّها بتلقائية غريبة فتحت الباب ببطء شديد جداً. ما أن انفتح الباب قليلاً حتى انقضّوا عليّها. انهال الضرب والرّكلات. لم تستطع الدّفاع عن نفسها. أحسّت برأسها يكاد يتهشم، والأرض لم تعد ثابتة، صارت تدور وتدور مثل مغزل صوف. ثم سقطت على الأرض الصلبة دون أن تفهم شيّئاً، ودون أن ترى شيّئاَ سوى أشباح ضبابية متراقصة حولها، أشبه باحتفالات الهنود الحمر حول النّار. اعتلاها جسد بعد الآخر، امتلأ أنفها بروائح نتنة. لم تعرف ما الذي يريده هؤلاء الاشباح، هل الاغتصاب أم الانتقام من شيء ما تجهله، أم قتل بطريقة أخرى. أغمضت عينيها مستسلمة لكل شيء يحدث الآن. تقلّصت معدتها، أرتجف جسّمها. فتحت فمها بحثاً عن الهواء، فأحسّت أنّها تتقيأ. امتلأ وجهها بسائل حامض. امتزجت أنفاسها برائحتهم النتنة ورائحة القيء والدم المتدفق منها. ولمّا التفّوا حولها سمعت لهاثهم المتقطع أشبه بفحيح الأفاعي السامة وهم يلعقون دمائها ولعابها والسائل الحامض التي ما زالت تتقيأه. ارتفع الصّدى عميقا في العتمة، يؤكّد لها واقعية هذا الكابوس العنيف. انّهم وحوش. ذئاب شرسة قادمين من المجهول الغامض ثم يرحلون الى المجهول الغامض. وحدها الآن تتمزق اشلاء متناثرة في صحراء خاوية. عتمة قاتمة تخنق انفاسها الشاحبة. ترتجف ثم تتقيأ مرة أخرى. ازداد الألم في جسمها لدرجة أنّها لم تعد تشعر به، والخلاص صار وهما متلاشياً كتلاشي وجوههم في العتمة، متناغماً مع هدير الرعد الصاخب. الريح غاضبة خارج المنزل، يعلو عويلها مشتتاً همهماتهم المبتورة. كل شيء مستمر حتى النهاية ولا أحد يعرف النهاية.
أشرقت الشمس، تلاشت الغيوم وأصبحت السماء صافية. انتشر ضوء الشمس في الغرفة. استيقظت متعبة جداً، حاولت النهوض من سريرها فلم تستطع. أحسّت بأن جسمها مكسّر، كأنّها رُميت من فوق سطح بناية عالية. تذكّرت كابوس ليلة البارحة فارتجف جسمها كالسّعفة، كابوس مخيف، عنيف. بسبب جدّتها. لم تستطع التخلّص من تأثير حكايتها الملعونة تلك. رغم مرور كل تلك السّنين. فلا تزال تعيش تفاصيل الحكاية بين فترة وأخرى. نهضت بصعوبة واقتربت من المرآة. ما أن شاهدت صورتها في المرآة حتى صرخت صرخةً أرتفع صداها بين جدران المنزل ثم سقطت على الأرض دون حركة.

مناف كاظم محسن
البصرة – العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى