فوز حمزة - شجرة العشق.. قصة قصيرة

اقترب النبي منها بوجل وبعد أن حنى رأسه قال:
- إلهتي المبجلة .. على طرف لساني كلمات تأبى إلا أن ألقيها أمامك .. هل تسمحين ؟
كانت الإلهه تنظر عبر النافذة حينما التفتت لتقول:
- تكلم أيها النبي .. أراك قلقًا كأنك لم تنم منذ سنين.
فقال وعيناه متقدتان من الوجد:
- لماذا يا مولاتي حينما عرفتك ولد في داخلي إحساس عميق من إننا نعرف بعضنا منذ قرون ؟
- لإننا كذلك فعلًا .. ألا تذكر لقاءنا في كوكب أبنادوسي في الحياة السابقة ؟
ردَّ بحماس :
- أكنا عاشقين مولاتي الجميلة ؟
العشق ليس لنا نحن .
- هل نحن هنا تعود علينا نحن الاثنين ؟
- أقصد بنحن الآلهه .. العشق خلق لكم أيها البشر.
- لا علاقة لي بالبشر .. أنا أعشق الآلهات فقط .. أنتِ معشوقتي الأزلية .
- كيف تجرؤ على مخاطبتي بهذه الكلمات .. ألا تخشى لعنتي ؟!
- سامحيني مولاتي .. أنتِ من زرعتِ بذرة الجرأة في قلبي ..
- سأسامحك .. أتعرف لماذا ؟
- لإنك أرق وأطيب إلهة في الكون .
- بل لأنك لبق ذكي .. تعرف كيف تمتص غضبي .
فرد النبي ذراعيه في الهواء وراح يدور حول نفسه مرددًا:
- الآن تلون الكون بلون الفرح .
سألته متعجبة :
- ما لون الفرح ؟
- كل ألوان الطبيعة .
- وما لون الحزن عندك أيها البشري ؟
- الحزن يا مولاتي لا يملك لونًا .. إنه يحتل القلب ويرفع راية الألم فوق كل شيء ..
- أيها المسكين !!
- لم أعد مسكينًا مذ عشقتكِ ..
- و ما لون العشقِ ؟
- للعشق نور وليس لون .. نور يشع من العيون ليضيء القلوب .. هل دخل هذا النور قلبك يومًا ما إلهتي؟
- لم أعرف هذا الشيء من قبل .. أخبرني عن نور قلبك ..
- لا أدري مولاتي .. هل دخل نور الحب قلبي أم ولدت بقلب من نور ..
- أنت سعيد إذن!!
- أنتِ يا مولاتي مَنْ وهبني السعادة .. ما إن أراكِ حتى أبدأ صلاتي و الدوران حول نفسي .. لا أفكر سوى بالعشق متناسيًا عالمي الذي انتمي إليه .
- هل تعرف كم أنا مشتاقة لسبر أغوار هذا العالم ؟ .. عندي شوق لأكون بين الثملين وهم يرقصون .. أراقب قلوبهم المنتشية وأرواحهم الهائمة .
- ما رأيكِ في رحلة لعالمهم .. هناك لا يفكرون بالمنزلة .. لا حسابات للحواس والجهات عندهم ستة ..
- متى نعود ؟
- ولم العودة وباب القلب يودي بكِ إلى السماء ؟
- لقد شوقتني .. هيا أيها النبي ..
سارا نحو ساعة وحينما وصلا حديقة غنّاء .. قال لها:
- أنظري إليهم إلهتي الجميلة .. هذا يرقص .. ذاك يحتسي وآخر يتأمل أما هذا الذي قرب النبع مزهوًا بنفسه يعتقد إنه عثر على الحقيقة ..
- إذن .. عثر على نفسه ..
حينما أصبحا وسط الحديقة .. فإذا بصعلوك يرسم على الجدار لوحة امرأة .. ما إن رأها حتى تجلى له شيئًا في الأفق .. قال لها ونظرة عينيه كمن وجد شيئًا ثمينًا:
- أنتِ كالشمس حينما تشرق وعندما تغيب .
ابتسمت قائلة:
- وصفكَ يجعل القلب ينتفض!!
- دعيني أتمم رسم لوحتي .. كنت أبحث عن ملامح امرأة حتى وجدتكِ.
- من أنت ؟ السرور باد في عينيكَ !!
- أنا صعلوك هذا المكان ..
- تبدو مضطربًا .. ممن ؟
- من الحكمة التي تلبستني اللحظة .. أنا الآن في حالة تأمل.
وهي تنظر لما حولها كأنها ترى العالم لأول مرة .. قالت وهي تنظر لما حولها:
- أشعر كأن حكمتي تتسرب مني كما يتسرب الفجر من عتمة الليل .. بل كما يهرب المطر من غيمة في السماء ليهبط على الأرض .. تلبسني إحساس غريب ..
شعر النبي بالغيرة فقال بعد أن سار بها عدة خطوات بعيدًا عن الصعلوك:
- مولاتي ..إنه يغويك ..
- قالت بعد تنهيدة :
- لم أكن مستعدة للغواية كما هذه اللحظة .. أشعر بالسكون والطمأنينة .
- إنه التضاد لمعنى الجنون مولاتي .. أنتِ بين الثملين .. لا تنسي ذلك .
- أريد الخروج من ذاتي .. أرغب بالرقص .. ناولني كأسًا.
أجاب النبي متوسلًا:
- ليس لك سوى أن تكوني شمسًا !!
- سأكون شمسًا لأحرق جسدي .. سأحرق كياني المظلم لأنير الآخر .
- لا تذهبي بعيدًا .. ستغويك حقول الورد .. إن فعلتها يا خالدة ستعودين مثلنا للعدم الذي قدمنا منه .
بانتشاء راحت الإلهة ترقص وتدور حول نفسها مغمضة العينين.
بحزن ويأس حدث النبي نفسه: كيف بهذه السرعة تخلت عن حكمتها ؟ ثم بتوسل قال:
- عودي معي كما أتيت مولاتي ..
- سأعود لكن إلى الضفاف.. أحلق فوق أمواج النهر بأجنحة جديدة ..
- كأني أراها أجنحة من شمع .. هل تنوين الانتحار وأنت تقتربين من الشمس؟
- بل سأذوب مع أجنحتي فوق حقول الورد .
ثم قالت له مندهشة بعد أن توقفت عن الرقص:
- أسمع صوتًا قادمًا من زمن آخر يناديني ..
- أرجوكِ مولاتي لا تتركيني وحيدًا .. وجودكِ غير لون فصولي .. لا تتركيني كالريح التي لا تعرف وجهتها.
عاد الصعلوك حاملا كأسين من خمر الأقحوان .. ناولها أحدهما قائلا:
- ألوانكِ ليست من عالمنا .. لونك يتخذ شكل الوهج المنير ..
أجابت والسعادة بادية على ملامحها:
- هذا هو الصوت الذي سمعته يطلب مني المكوث هنا .
قال الصعلوك دون مبالاة :
- تحلقين بعيدًا عن مصيركِ .. من بقايا الجمر المحترق سيصليك الألم ..
- بل سأكون أكثر اتقادًا .. كأني بالربيع قادم من جديد.
- عاد ليجدد الولاء لك ..
التفتت الإلهه كمن يبحث عن شيء متسائلة:
- ما هذا الصوت الذي لم أسمعه من قبل ؟
- ردَّ الصعلوك:
- هذا صوت عاشق يتطهر .. قضى الوجد على صبره .. يعتصره الشوق فيئن قلبه.
قالت بحماس كبير:
- سأتخلى عن كل شيء وأصبح كهذا العاشق ؟
- تخلصي إذن عن أجنحتكِ وألوانك الغريبة ..
- وكيف السبيل لذلك؟
- عليك بتناول ثمرة من شجرة العشق تلك .. حينها ستتماهين مع كل شيء .. ستفهمين لغة الطير وهمس الشجر .. سترقصين لعزف المطر .. ستصبحين إنسانة.
- وماذا بعد أن أصبح إنسانة ؟
- ستموتين من العشقِ !!
صمتت الإلهة قليلا ثم سألت الصعلوك:
- وأنتَ؟
- أنا سأغتسل بماء النهر كما يفعل القمر كل ليلة ثم أتلو لك صلاتي ..هاتِ يدكِ وسيري معي صوب الشجرة.
زاد النور الذي يحيط بالشجرة حينما اقتطف منها الصعلوك ثمرة كبيرة تقاسمها مع الإلهة التي راحت تلتهما بسرعة.
بقلب مثقل بالهم سألها النبي:
- أتتركين نبيًا هام بكِ وتذهبين مع صعلوك سلبك مجدكِ.
- ابتسم الصعلوك أما هي فقالت :
- إنه العشق إيها النبي ..
- إنه نهر دون ضفاف .. ستغرقين فيه حد القاع آلهتي الجميلة.
- في الأعماق سأجد ضالتي.
- قد لا تجدين زورقًا ينجيك ..
- تكفيني السعادة التي أشعر بها الآن ..
- ستلقين بنفسك في آتون العشق .
- بل سأتدفأ به .
- ستكثرين من طرح الأسئلة !!
- كنت أظن أنني أدرك كل الأسرار .. الآن فقط عرفت كيف للروح أن تنساب في الجسد .. كنت أمنح الحياة للناس لكن أبدًا لم أعرف ماهي .. الآن أنا انتشي بطعمها ..الآن فقط عادت لي كل الحيوات التي منحتها لبني البشر.
وهو يهم بالمغادرة .. نظر النبي إلى الصعلوك الذي بدا بهيئة نبي والإلهه التي تخلت عن أجنحتها لتصبح عاشقة .. شعر بالوهج يتسلل له من الشجرة التي ألقت بنورها على المكان .. ابتسم بحزن وهو يتذكر كلمات إلهته: إنه العشق أيها النبي .
  • Like
التفاعلات: عصمت محمد بدل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى