جمال الدين علي الحاج - بسط ومقام.. قصة قصيرة

حينما انتهت المعركة ؛ لم يكن يستر عاره سوى بطاقة متسخة معلقة على صدره مكتوب عليها اسمه و وظيفته. جادو متحصل رسوم النفايات. بدت حواء بائعة الشاي سعيدة بالنصر الذي حققته؛ وقفت تتلفت كلبوة تتلمظ شفتيها بعدما شبعت من لحم فريستها؛ رفعت قبضة يدها للحشد الذي بدأ هو أيضا سعيدا بالمصير الذي لقيه خصمها. كان الجميع في حالة نشوة؛ الا جادو الذي صرح لاحقا أنه تصرف كرجل دولة محترم؛ وأنه لم يكن بأي حال من الأحوال ينزل إلى ذلك المستوى. ومع أن الجميع شاهده يرفع يده بالسوط؛ إلا أنه يصر أنه أراد تغطيه أنفه عندما اقتربت منه المرأة المتوحشة حسب وصفه رافعه يديها لأعلى. يكذب جادو بالطبع؛ الجميع يعرف فظاظته و سلوكه المهين. قبل يومين ركل طاولة سعدية بائعة الفول السوداني المدمس والتسالي والدوم بقدمه؛ ومضى في طريقه؛ لم يهتم حتى لبكاء طلفتها الرضيعة. ألهذا لم يتدخل أحد ليوقف لكمات حواء التي انهالت على وجهه؟
أطلقت سعدية زغرودة مجلجلة ولمعت عينيها ببريق عجيب. لا أدري هل ندم جادو بالفعل أم أنه كان في حالة سكر؟ ذلك المساء التقيته في نادي المشاهدة تفوح منه رائحة العرق وبخته على فعلته؛ تمتم بكلام مبهم ثم دس في يدي حزمة من الأوراق النقدية؛ و هو خارج طلب مني إيصالها إلى سعدية. برغم ذلك ظل جادو في نظر الجميع في السوق كلب الحكومة الوفي؛ ترسله إلى الصيد وتحرمه من تناول لحم الفريسة. ومع أن أكوام النفايات تبدو ظاهرة وتكاد تزاحم البضاعة الرخيصة المعروضة في سوق سلبونا؛ إلا أن حواء لم تلحظ طوال وجودها في السوق منذ تأسيسه سيارة نفايات واحدة تمر على السوق. لقد ظل جادو يحرص على جمع الرسوم من التجار أصحاب المحلات العشوائية ومن الباعة الجوالون و من بائعات الطعام طرف السوق في بداية الشهر. أين تذهب كل هذه الأموال؟ تتساءل حواء و لا أحد يجيب.
لا نتحدث هنا عن تجارة عالمية فالسوق كما يعلم الجميع
يقوم على ما يمكن أن نطلق عليه تجارة قدر ظروفك. جادو يقول طالما أن الأرض ملك للدولة وأن هناك حكومة مسؤولة في البلد؛ فهي بحكم كل القوانين شريكة بصورة أو بأخرى في الارباح. هو لم يقل الأرباح بل همهم التجار بذلك و بدأ ذلك مقنعا لتجار مساكين هم أقرب إلى الفقر منهم إلى الغنى؛ في بداية الأمر؛ فالحكومة بنت قبة من الحديد كتبت عليها مركز البسط والمقام و بجوارها وضعت لافتة من القماش على خيمة كانت تستخدم لتجنيد الشباب أيام الحرب مكتوب عليها مكتب خدمات السوق. هنا يجلس عبده خلف مكتبه بمهابة. الحكومة شريك أصيل في الأرباح لا أحد يستطيع القول بخلاف ذلك. قال عبده الساعاتي. لكن ما الذي جعل المرأة الطيبة المكافحة حواء تنتفض كمصارع ساموراي وتنقض على جادو في ذلك النهار من شهر مايو؟
هل تحرش بها؟ أعرف تلك الابتسامات التي يقابل بها الفتيات بائعات ادوات التجميل المغشوشة والمهربة في سوق أنغولا الطرفي. لا .لا. هذه فكرة غبية بالنظر إلى كتل اللحم التي تحملها حواء. لا يمكننا التعويل على كلام عبده الساعاتي؛ بعد فضيحة الفديو التي تعرض لها في منصات التواصل أصبح عبده ناقم على الكل ويريد تلويث سمعة الكل في السوق. قال بلطي صاحب مطعم الأسماك وابتسامة خبيثة تسيل على شفته السفلى. لا يمكن أن يكون زيادة رسوم النفايات هو السبب لأن الشخص الوحيد في السوق الذي تم إعفاءه من دفع أي رسوم هو حواء بحسب زعمها وقد ظلت تتفاخر دوما وهي تلوح بورقة صفراء في يدها. هذا ليس كلامي أنا حواء المرأة الجاهلة. هذا كلام الحكومة موثق ومختوم. لا أحد تأكد من صدق كلامها لأنها ترفض افلات الورقة من يدها حتى لموظف حكومي محترم يقوم بجمع رسوم النفايات بهمة ونشاط هو جادو.
لا أحد عرف السبب الذي جعل حواية بائعة الشاي تضرب جادو وتمرغ أنفه بالتراب تلك الظهيرة؛ لكن اليوم وبعد مرور سنوات على ذلك الحادث الغريب؛ يرى زوار السوق ذلك المتشرد بثيابه الرثة وشعره المنكوش؛ يجلس وحيدا بحوار كومة من النفايات؛ يحتسي كوب من الشاي بالحليب والزنجبيل وأمامه صحن ملئ بقطع الزلابيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى