د. سيد شعبان - الزغبية والنهر

ترامت شائعة وكثيرا ما تتوالى إحداهن من أفواه أولئك القابعين في تلك البلدة التى تختزن الأقاويل لزمن تنكسر فيه أصلاب الرجال أمام سطوة الزمن، أن عم عبدون- وذلك لقبه الذي أطلق عليه- يسحر للنيل؛ منذ كانت في كفرنا خيول وإبل تشق صمت الليل؛ وهجانة يمسكون بسياط تلوي ظهور الناس، عبدون جاء مع فيضان النيل؛ وجهه لا تنير فيه غير عينين تومضان برقا، وأسنان منيرة كالقمر، يحمل خرجه ويتكيء على عصاه؛ يدب في الحارات والأزقة، لا يصيبه الكلل ولا يهزمه الخوف؛ تتبعه القطط والجراء؛ يوزع قطعا من حلوى، في كفرنا بصاص لا يترك طيبا إلا ونال منه: عبدون سحر للنيل، يلقي تعاويذه عند ضفته، يخرج ثعبانا كبيرا فيتراقص أمامه، يعلمه بسر النهر.
فأما الحبش فيسرقونه سدا؛ ثمة من يدعي أن الحيتان تشرب الماء، ومن يخايل بمرآة كبيرة تعكس الضوء وتحسره عند سفح الهرم، سرداب طويل يمتد من بحر يوسف والسبع الشداد تمتد حتى الأرض التي باركها الله؛ تينا وزيتونا وجبلا كلم عنده موسى تكليما.
فوق النهر من جهة السماء العلوية كوثر وفرات يجريان حول حياض الجنة؛ وأنهار من عسل مصفى وخمر لذة لكل الطيبين.
رايات خضر وجمال تسبح في الوادي؛ ترتوي الزغبية من لبن السبع السمان، تأويل رؤيا يوسف تمتد وتتناثر من مهد المسيح إلى غار حراء عند البلد الأمين.
تقول جدتنا الزغبية: عبدون من نسل سيدنا بلال بن رباح- الذي تبع النبي وكانوا يضعون عليه الحجارة حمم نار فيقول : أحد أحد- جاءه هاتف في نومه: اذهب لموضع تسكنه أشجار الكافور عند ملتقى النهر بالبر؛ بلدة طيبة وربها غفور؛ تطعم القطط ثريدا معجونا بمرق وتسقيها لبنا صافيا.
يطوف بالجوعي يحمل خبزه، ولي من أولياء الله في زمن يقهر كل ولي؛ يطارده بل يساومه وقد يرهب ظهره بأعباء السنين، كأنه المسيح عيسى ابن مريم وقد مشى في طريق الآلام ومن ورائه كما الهجانة جنود الرومان!
ذات مرة والكفر نائم صحونا وللريح دوي؛ تطايرت أشجار الكافور؛ تساقطت أغصانها، فئران ملئت كفرنا، قطط سوداء تجري وراءها؛ عبدون أخرج ثعابين سحره الأسود؛ في أيام الشتاء الطويل الذي غطى بسحبه وفزعه؛ يصدق الناس الشائعات؛ ألقى الخباص بشره: اجمعوا حطب أشجار الكافور، أشعلوا نارا، تستعر في غيظ فهي تمور؛ عليكم أن تلقوه فيها؛ نكاية فيه جاءت الجدة الطيية؛ كانت تعرف موضع السر من باطن النهر، كنز مرقوم على ظهر سمكة كبيرة!
أخرجت عصاها؛ مباركة أينما وضعت؛ رمت بها في جوف النهر، تهادت السمكة المرقومة، علامة بها في عام يكون القمر طوال سبعة أيام بدرا؛ تظهر في السماء الشمس ولونها أخضر؛ حبات من مطر بيضاء كأنها المرمر، عبدون يصلي عند المصلى المبارك جهة القبلة، يبتهل ويدعو أن يئوب الخباص إلى ربه؛ يتدحرج جهة النار؛ يضع أكواما من حطب؛ تشتعل في ثيابه الموشاة بالكذب نار موقدة من إفكه!
ولما كانت الفئران تعبث في الأشياء، تناثر ما بخرج العم عبدون؛ جلد عنزة برقية به كلمات وسهام؛ للنهر يوم لن يخلفه؛ حجارة كبيض دجاج الزغبية تلك الجدة الطيبة أم الخير، يقال: إن جدها الأكبر كان صاحب الكهف الذي آوى الفتية ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، تشممت الجراء رائحة الذي كان بالوصيد.
غاضت عينا الخباص، قالت الجدة الزغبية: أعطوه كسرة خبز من مطر مبارك؛ تشفى بطنه وتفرغ من سحره الأسود!
جمل يتبعه حصان له غرة بيضاء؛ لونه ذهبي؛ يصهل فتبرز علامات بجلد العنزة؛ جاءت النهر أسماك تملأ الشاطيء؛ رجل أخضر يهب العابرين سيفا، في كفرنا تحجرت وساوس الخباص، ارتفعت من جديد نبتة من شجرة الكافور، يتلو الشيخ ورده؛ عم عبدون ينصت لقول الله تعالى:" أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا".
تنهدم جدران وتنشق عن كنز مخفي تصيح الزغبية:" وكان أبوهما صالحا" تنفلت الإبل من عقالها، تتراكض في الزاوية فتصهل الخيول، يفر الخباص مع الهجانة، يدخل عليهم من كل باب: صغير بحجر أو رجل بأمر القدر!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى