عبد الرحيم التوراني - من شق نافذة بالضواحي.. من نفس الثقب

الوقت صباحا. صباح مبكر. الفصل صيف. نوم الشمس قليل. ما تكاد أن تغيب حتى تحضر. اقتربت خمس شاحنات من السور. هو ليس سورا مبنيا. ما يشبه السور. قل هو سور ارتفع بفعل تراكم الأحجار وتكدس الأزبال. شاحنات من الصنف الذي يستعمل في نقل الرمال. شاحنات محملة بجثت آدمية. جثت أطفال ونساء وكهول وعجائز وشباب. قد يكون عدد الأطفال قليلا. لكن هناك جثت أطفال. رأيت أقداما حافية. أقداما صغيرة تطل من حواشي شاحنة.
كانوا ثلاثة جنود يقفون في أسفل المزبلة. ربما هم من حفروا الحفرة التي في أسفل المزبلة. لم تكن آثار الإجهاد تبدو على أي منهم. ربما مر وقت طويل على انتهائهم من الحفر. بنادقهم فوق ظهورهم. ومن أحزمتهم تتدلى هراوات إلى الركب. أحذيتهم ثقيلة سوداء. رؤوسهم حليقة ووجوههم متغضنة. كانوا لا يكلمون بعضهم. اختلط هدير الشاحنات بالدخان المنبعث من عوادمها بروائح الجثت بالصمت بطنين الذباب بروائح المزبلة بالغبار.

السكان الذين تقع منازلهم الواطئة قرب المزبلة قد أغلقوا أبوابهم ونوافذهم. بعضهم غادر أو هرب. وكنا نسكن في حي يقع بالضواحي. في الوثائق يسمى حينا باسم حي الأمجاد. ولم أعرف له اسما متداولا غير اسم "حي المزبلة". طغت المزبلة بروائحها ونفاياتها على محيطها. في الحملة الانتخابية لعضوية المجلس البلدي فاز مرشح وعد السكان بالقضاء على المزبلة وتحويلها إلى حديقة ووعد بإعادة الاعتبار إلى اسم الحي وأمجاد أهله. فاز المرشح ورمى وعوده في مزبلتنا. زادت عفونة نتانتها. صار حجمها أكبر.
من جانبي لم أكن أصرح لأي أحد بعنوان مسكننا. حتى لو ذكرت إني من ساكنة حي الأمجاد فقد لا يعرف موقعه، وإن عرف فسوف لن يتردد مخاطبي في قول:
ـ تقصد حي المزبلة؟
لا أجيب. أصمت أو أغير الموضوع.
في ذلك الصباح وجدتني أصحو مبكرا، أقف عند الشباك. أتلصص من شق نافذة المنزل.
سمعت أمي تنهرني. تحرض أبي ضدي .
ـ ألا ترى يا رجلا ماذا يفعل هذا "البرهوش"؟
ألا ترى أنه يبحث لنا عن مشاكل نحن في غنى عنها؟؟
تسكت ثم تلتفت صوبي مهددة أن أنزل.
ـ انزل من هناك يا ولد الحرام. مثل البرد قد ينتبهون ويسددون لك رصاصة تثقب عينك ورأسك. ويخلصوننا من شقاوتك..
كنت أتمادى في موقفي. ألصق عيني بثقب الشق. أناوبهما. من حين لآخر أريح هذه بتلك. وجعلتني سلبية أبي وعدم اهتمامه بلغط أمي أن لا أهتم أنا كذلك بلغطها.
رأيت الشاحنات تتناوب على تفريغ حمولاتها البشرية في معدة التراب في الحفرة الكبيرة. ورأيت الجنود يشرفون على تنظيم العملية. يوجهون بإشارات من أيديهم سائقي الشاحنات. تماما كما لو كانت طائرة ستحط فوق أرض مطار. يفهم السائقون لغة إشارات العساكر. ويتم الإنزال والتنزيل بسلام وفق ما أريد له. تتساقط الجثث ملتصقة ببعض. ورأيت طفلا فوق ظهر امرأة تشبه أمي. وطفلها كأخي الصغير. ورأيت رجلا له شنب أبي. وهيأة أبي. ولون سترته. إلا أن سترة الرجل كانت متسخة ومبقعة بالدم.
مر وقت طويل لم أحس به لسرعته. اكتشفت أن الشمس بدأت تستعجل المغيب. واكتشفت أن الشاحنات فاق عددها الخمسة. وأن ألوان الشاحنات تعددت. وأن العساكر ليسوا ثلاثة. رأيت كتيبة عساكر. ورأيت من نفس الثقب آخرين بلباس مدني. سأميز من بينهم واحدا ألفت مشاهدته في نشرات الأخبار المتلفزة. وتساءلت عن سر حضوره هنا. كان يدخن بشراهة. الوحيد الذي يدخن كان هو. الباقون لا يتبادلون الكلام بينهم. أكيد أن كل واحد منهم قال شيئا داخل سره. كما كنت أفعل أنا..أطرح على نفسي أسئلة. لكن من دون رد.
سيطر الغبار وتعالى الدخان. ظننت في الأول أنهم قاموا بإشعال حريق يحيل الجثت رمادا. لكني سأكتشف أنهم لم يصلوا إلى هذه الدرجة من الوحشية بعد. لقد ردموا الحفرة بالأحجار الثقيلة وبالأتربة وصبوا فوقها الجير الأبيض.سيتكفل الجير الأبيض بخنق رائحة القتل. طغت رائحته الكربونية على كل الروائح. ومن وسط الدخان سأشاهدهم ينسحبون. ثم ترجل الجنود الذين رأيتهم في الأول. وبدؤوا ينكشون الأرض بأعقاب بنادقهم. فهمت بعد وقت أنهم كانوا يمحون آثار عجلات الشاحنات وأثر أحذيتهم الثقيلة.
غابت الشمس. لم أعد أرى شيئا من ثقب النافذة. انسحبت من الشباك. كدت أسقط وأتعثر. كنت الوحيد بالمنزل. لم تكن هناك أمي لتنهرني وتعيرني بولد الحرام. ولم يكن هناك أبي ليهمل لغطها. وأقلد أسلوبه في إهمال اللغط. ولم يكن هناك أخي الصغير ليلهو بكتبي الملونة فأسرع لخطفها من يده. ولم تكن هناك جدتي لتنهر ابنتها أن تكف عن وصف فلذة كبدها بابن الحرام.
كان الظلام والخوف والبكاء والألم. ألم الفقد. كانت أسرتي تنام في الحفرة الكبيرة. أمي بلغطها وأخي الصغير يلهو بكتبي. وأبي بشنبه المحفف. وجدتي بحنانها الذي أحب.. ولم أكن معهم كي يتلاسنوا بسببي.
أنا ولد حرام من أفعالي، كما كانت تستدرك أمي بعد تنبيه أمها. صرت مقطوعا من شجرة بلا والدين كلقيط. ستظل المزبلة لدي لصيقة بالموت. ليس عبثا أن تحول إلى مقبرة. مقبرة يحرسها جيش عظيم من الذباب و من الحشرات اللاسعة.
بعد أربعة وعشرين ساعة على دفن الضحايا نزلت إلى المزبلة. أبكي أمي وأخي وجدتي وأبي. أبكي وأبكي. تحلق حولي أطفال آخرون من عمري. سألوني عن بكائي. سأكذب وأقول: ضاعت مني قطعة نقود وسلسلة عنق من ذهب. تركوني وبدؤوا ينبشون الحفرة. ابتعدت عنهم. كانوا لا يحفرون الحفرة المقبرة حيث يرقد القتلى. كان الأطفال يحفرون جوانب المزبلة. بعد ساعة سيغادرون المزبلة. وفي يد أحدهم سلسلة عثروا عليها وتوجهوا لبيعها لتاجر ذهب.
تبعتهم لأحصل على نصيبي. نهروني وشتموني بالمتطفل وبولد الحرام. رماني واحد منهم بحجر. لكن التاجر طردهم. أخذ منهم السلسلة وقال للصغار إنها ليست من ذهب. ثم اتهمهم بالسرقة وسرقها منهم.
جاءت شماتتي مسرعة من غير تعب.
في الليل سمعت أصواتا قادمة من المقبرة. فتحت النافذة فرأيت أضواء ملونة وسمعت أنغام موسيقى راقصة والناس يغنون ويرقصون والأطفال من حولهم يجرون ويلعبون. لم يكن أهلي من ضمنهم. بقيت أتفرج حتى الصباح. حيث رجعت المزبلة إلى موضعها. لم أخبر أحدا بما رأيت. كل ليلة أتفرج على المهرجان الموسيقي. إلى أن قررت أن أبحث عن أهلي و ألعب مع هؤلاء الأطفال الذين يرقصون مع ذويهم كل ليلة. ما أن اقتربت من باب المهرجان حتى غادرت طفولتي وجدتني شابا كهلا أمام محققين في مقر أمن يسألونني عن صلتي بمحاولة إسقاط النظام. نهرني محقق وشتمني بالمجرم وبولد الحرام
تذكرت الرجل الذي كان يدخن ليبعد عن أنفه روائح المزبلة. رأيته أمامي. وحولي الجنود الثلاثة ببنادقهم على ظهورهم وهراواتهم تتدلى من أحزمتهم حتى الركب. ورأيت الدم الأحمر في أعينهم.
سألوني عن اسمي ومهنتي وعنواني.
أجبت:
ـ اسمي: عبد الكريم ويلقبونني باسم كريمو .
مهنتي: زبال.
عنواني: حي الأمجاد.
بعينين جاحظتين صاح في وجهي:
ـ قل حي المزبلة.
لم أفكر حينما انتفضت ورددت عليه:
ـ بل حي المقبرة.
أوقفوا التحقيق معي. أقفلوا علي في غرفة مظلمة. سأنتظر لجنة تحقيق أعلى. لاحظت شقا صغيرا بباب الغرفة الزنزانة. سددته بعيني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى