د. محمد عبدالله القواسمة - بلاغة الشارع

دخلت المقهى. كانت جماعة المثقفين الذين أعدّهم أصحابي، في ركنهم الخاص من المقهى تحت مظلة من الدخان الأسود المنبعث من أراجيلهم وسجائرهم. كان صوتهم يعلو، ونقاشهم يحتد في موضوع غريب يتردد أول مرة على مسمعي "بلاغة الشارع".

ماذا يريدون ببلاغة الشارع وهل للشارع بلاغة؟ دعوني لأشاركهم النقاش. أعرف أنهم يريدون أن يتندروا علي، ويسخروا مني؛ فهم يعرفون أني لا أهتم بمثل هذي المواضيع، مع أني أعد نفسي مثلهم من المثقفين. والدليل على ذلك أني أعمل في بيع الكتب القديمة التي استغنوا عنها هم وأمثالهم.

مر بعلمي بأن كلمة بلاغة تلتصق بكل شيء؛ فأسمع من يقول: بلاغة الجمهور، بلاغة المقهى، بلاغة المطبخ، بلاغة الدولة، بلاغة التلفزيون. أما بلاغة الشارع فقول لا أفهمه. ربما معناه الفوضى، أو حكم الشعب، أو التحكم بالشوارع. على كل حال يبدو أن المفهوم حداثوي غامض.

قبل أن أجلس، قال حمدان:

- جاء من يفهم الشارع وبلاغته.

قال شعبان:

- فعلاً نبهان خبير الأرصفة والشوارع. سيدلنا ما المقصود ببلاغة الشارع.

قال حسن:

- دعه يجلس أولًا يا رجل.

ونادى على تيمور عامل المقهى أن يحضر لي الشاي على حسابه.

يحسبوني لا أعرف تلميحاتهم وغمزاتهم ولمزاتهم. صحيح أمضي وقتي في شوارع البلد. لكن أمي لم تلدني في الشارع ولم تكن ضائعة مثلي. نظرت إليهم وأنا أكاد أبكي. كلما تندروا علي أشعر بالحزن، وقلبي يشتعل نارًا. أعجب أني أحب الجلوس معهم. كرر الجميع سؤالي عن بلاغة الشارع. لم أجب. جاء النادل بالشاي. قال حمدان:

  • رجع الطلب.
تناولت الكأس عن الصينية، ورفعته أمامهم عاليًا لأغيظهم. واتجهت إلى البلكونة التي تطل على الشارع الرئيسي.

رحت أراقب الناس وهم يسيرون في كل اتجاه، وبعضهم يقطع الشارع دون أن يتقيد بنظام السير، أو ينتبه إلى السيارات المارة. وكانت أصوات السائقين وأصوات الباعة تتعالى في السوق. انتبهت إلى جهة في الشارع كان الشجار قد بدأ بين رجل وامرأة:

  • فتح! أنت أعمى؟!
  • لم أنتبه يا أختي.
-رجل لا تستحي!

  • عيب يا امرأة!
  • تستحق أن أضربك.
سحبت حذاءها وحاولت أن تضرب الرجل. أمسك بيدها؛ فارتفع صوتها:

- الله أكبر! رجل يضرب امرأة يا ناس!

بسرعة البرق. كانت الشرطة بالشارع، أمسكت بالرجل، وراح شرطي يضربه وهو يجره إلى المخفر. ثم تناهت إلى مسامعي أصوات تظاهرة قادمة من قاع المدينة. خشيت أن بفرض منع التجوال، ولا أستطيع العودة إلى البيت. فنهضت لأغادر المقهى. المثقفون ما زالوا يتناقشون في بلاغة الشارع، ولمحت بينهم كِتابًا بهذا العنوان أو قريبًا منه؛ فلم أر الكلمة أو الكلمات الأخرى التي التصقت بها كلمة بلاغة.

سألني شعبان:

  • إلى أين؟
  • إلى الشارع.
قال حمدان:

  • يريد أن يفهم بلاغة الشارع.
كانت التظاهرة قد توقفت بالقرب من المقهى. الشرطة قد صنعت سدًا لمنع أناس آخرين من الالتحاق بالتظاهرة. كان جماعة من الناس يصفقون. وقفت أصفق معهم وأنا أسأل عما يحدث. أجابني الرجل الذي بجواري:

– لا أعرف.

المهم أني بقيت أصفق. التفت إلى يميني، شاهدت رجلًا كان يتأفف بغضب. عرفت أنه أحد المثقفين الذين شاهدتهم في المقهى. سألني:

- ما الذي يجري يا نبهان؟

- لا أدري.

سخر مني. ورأيته ينسل من بين الناس وبقيت أصفق. اقتربت الشرطة منا، وتناولونا بالضرب الذي لا رحمة فيه. لماذا؟ لا أعلم. حاولت الهرب لكن الشرطة تناولوني بالهراوات. سقطت على الأرض، وأخذت ازحف حتى كنت بباب المقهى، واستطعت صعود الدرج.

استقبلني أصحابي المثقفون، وضعوني على كرسي بينهم. لاموني على خروجي للتظاهر، خاصة أني لا أتأثر بغلاء أو فساد. أجبتهم وأنا أحاول أن أبتسم، مع أن مؤخرتي تكاد تفارقني من الألم:

  • كنت أحاول فهم بلاغة الشارع.
  • سألني حمدان:
  • - هل فهمتها؟
  • تدخل حسن:
  • - لا شيء يغيب عن نبهان.
  • عم الصمت. قال شعبان:
  • - لم تخبرنا عن بلاغة الشارع.
  • أجبتهم بضجر:
  • - بلاغة الشارع كما فهمتها هي: احتجاج الناس في الشوارع على الغلاء والفساد وضربهم على مؤخراتهم بالهراوات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى