د. مصطفى الضبع - لحظة تنوير

كمن يصل إلى النهاية في قصة بوليسية ، كنت استمع إلى التفاصيل محاولا تشكيلها علني أتوصل للصورة الكاملة ، قرابة عشرسنوات كانت الحكاية تتشكل على مهل وبطريقة لم أتوقعها ، أحتفظ ببعض التفاصيل وسرعان ما أنساها ، تنطرح أسئلة وسرعان ماتذوب ، على مدار عمر صداقتنا المتينة كان دائما يودعني أسراره كلها ، وكنت على يقين إنه لا يخفي عني شيئا ، تفاصيل علاقته الزوجية المضطربة ، مشاكله في العمل ،حلمه بالتخلص من رئيسه ، نظام تربيته السري لأولاده (يرسم سيناريوهات محكمة للتربية)، كنت شاهدا على كثير من علاقاته شبه الناجحة .
كثيرا ما كنت أستحثه للمشاركة في مؤتمرات أحرص على حضورها، كان يعتذر لأسباب غامضة أو هكذا بدت لي كذلك، مرة واحدة أشار لها بحياد تام، تلك الزميلة من بلد غارق في الحروب، تشتت أبناؤه في بقاع أوروبا، كنت أعرف بعض التفاصيل التي لا تغري الشغوفين بالاستطلاع من أمثالي.
، كان المؤتمر مملا حد النفور، وكنت أبحث عن صديق لم أره منذ زمن، صديق افتراضي لا أملك عنه أية معلومات، فقط صديق عزيز، في جدول الجلسات لم أجده، ظللت على أمل أن يلحق بالمناسبة، وكأن تحديثا سيتم في لحظةما لإضافة اسمه، لذا تعلقت بالأمل ورحت أتعامل مع الجميع بقدر من الحياد.
قبيل نهاية المؤتمر ظهرا معا مصرين على دعوتي لمشاركتهما قهوة المساء، جلسا معا، تبدت بينهما مودة لم ألحظها من قبل أنا المقرب منهما حد المثلث مكتمل الأعضاء، رابعنا صمت لم تحركه نسمات الليل المقبل.
راح يحكي كأنني كنت أنتظر نهاية حكاية بدأت منذ آدم، وتتداول الأجيال غموضها وتتوارث الحضارات طرح أسئلتها: في مؤتمر اليرموك التقينا (كنت شاهدا على اللقاء)، وتشاكينا على الفيس بوك، وتناقلنا المشاعر على الواتس وتزوجنا في مؤتمر الرواية الثاني في مصر (كان المؤتمر منذ أكثر من عشر سنوات).
كأنني كنت أنتظر الحكاية المكتوبة أمامي طوال الوقت ، ولكنني كمن فقد نظارة القراءة بدت التفاصيل مشوشة أو رأيت الصورة خلاف ما كان علي اكتشاف مستوياتها .
ولأنني أعلم يقينا إنهما لا يلتقيان إلا كل عام أو كل عامين ، بدا الأمر محيرا ، كل كانا يلتقيان بطريقة أو بأخرى ، كأنهما شعرا بدواخلي : قالا في صوت واحد ، كنا نكتفي بلقاء يتيم مرة أو مرتين ، لم نكن في حاجة لسواه ، لقاء واحد ، يمحو ماتراكمه الأيام ، ويمنحنا زادا للقاء مرتقب ولو طال أمده ، ثم صمتت هي وواصل هو، بدا كمن يحلم : كنت أعمل عاما أو عامين لأكافئ نفسي باللقاء (أعرف حجم إنجازه خلال السنوات السابقة : عشرات الأبحاث والمقالات والنصوص حتى راح بعض من حوله يتهامسون ويتغامزون : متى ينام ومتى ينجز ومتى يعيش) ، سرح بعيدا كأنه قرار موسيقي ، وراحت هي تطرح جوابه: كنت أتحمل الحياة وشوق الروح واجترار الذكريات حتى نلتقي ، كنا نتحمل لنعيش ،ونعيش لنتحمل مالا يراه السادرين في جهلهم بالعواطف ، صمتت ، جاء صوته هامسا : صدقني ، في كل لقاء لم نكن نرتب متى سنلتقي ، فقط نلتقي ، نعيش اللحظة ، ثم نتسلل من بوابات الحياة الخلفية ونواصل السفر ، كانت الحياة بالنسبة لنا سفرا لمحطة واحدة ، لم أكن في حاجة للمزيد ، توقفت حواسي عن العمل ، فقط رحت أتأمل فنجان القهوة ، رويدا انفصلت عن اللحظة ، سرحت بعيدا وعندما عدت لم أجدهما ، ولولا الأطباق والأوراق وفنجان قهوتها وكوب شايه لشككت في المشهد كله، تماما كالشك في حياة لانعرف كيف نحياها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى