حسن حلمي - الطريق إلى زحل

تماماً.. وهي تغيب
تمتلئ الشوارع المكتظة ببوابات المرور
تتدحرج المقاهي حول رواد قد تصيّدوا مقاعدهم من الهواء
يتحلقون حول نافورة ترشُّ الأغاني الممنهجة في وجوههم الصامتة .
ويداعبون الملل بطرقعة أصابعهم اليابسة
فتنفلتُ من بين أناملهم كراتٌ من فراغ منهمر
تتحين فرصتها للانطلاق .
أشمُّ رائحة التماثيل وهي تبول على المقاعد الخشبية,
بوابل من أضواء المصابيح الصفراء .
أتكئ على صوت أم كلثوم ( فات الميعاد).
فأجد الحسرة في عيني بائع الأحلام السعيدة
الذي بادرني برصاصة عاجلة من حلم قديم,
ثم سألني فجأة :
ــ هل ضاقت بك الأرض بما رحُبت ,
عندما فقدّتَ فيها مكاناً لقدميك ؟ .
ــ هل أذلّك الساسة البلهاء في اتباع طريق واحد للحياة,
حينما قلتَ ( لا ) مرّة ؟
ــ هل فقدّتَ عقلك حينئذ . . حين خرج عن السِرب,
واستعاد وعيه في لحظة يأس بائسة ؟
ــ هل رأيت شجرة تجري وراءك, غير عابئة بظلها,
وهي تمطر طريقك باللعنات والدعوات معاً ؟
ــ أو عدوتَ وراء نخلة فقدتْ أسباطها في مظاهرة ليلية للنخيل ؟ .
أو خرجتَ من مرآة دون أن تُصاب بلوثة من جنون ؟ .
ــ أو اخترت واقعاً افتراضياً أكثر جنوناً من واقعك المُعاش .
ــ أو جلست يوماً القرفصاء فوق الماء, لتصطاد أحلاماً سعيدة ؟
آه . . .
لقد أبصرتَ بما لا يبصره الآخرون
فأنت الآن . . والآن فقط . .
قد صرتَ ولياً فقد نعليه وعمامته,
ورُباطة جأشه داخل المقام .
فأقاموا عليه حلقة من الذِكْر لقيامته من جديد .
أو ربما صِرتَ ملاكاً ضلَّ الطريق إلى الجنة . .
عندما أُسنِدت إليه طريقة وحيدة للموت .
فلمَ الانتظار إذن يا صاحبي ؟ .
عليك بالرحيل إن استطعت .
فليس لك إلا خِيارٌ واحدٌ بين طريقين . .
ــ هل تودُّ أن تُبحر معي إلى زحل ؟
فهناك ميدان فسيح كحديقة ( هايد بارك ),
وتمثالٌ يُمطر على العابرين وجبات جاهزة من الحريات
ليس عليك أن تحصل على تأشيرة خروج أرضية
أو جواز سفر ممهوراً بخاتم النسر
فالنسر ــ حتماً ــ سيأتي معنا,
بعد أن ضاق ذرعاً بتلك الحرية الزائفة .
فقط . .
انتبه جيداً لخطوتك الأولى على أرض ( تيتان )*
مقرّك الأخير, ومقامك الأسمى
وامنح نفسك وقتاً مُستقطعاً لإراحة عقلك من ذلك المنطق اللعين
ولغو الأرضيين التعساء,
واْعدُ عينيك عنهم تماماً,
حتى لا تحمل أي شرِّ مستطير معك .
. . . . . . .
أبدو كأني غير عابئ بقوانين الفيزياء اللعينة .
فطرتُ من فضاء ضيق لم يسأم من سرد حكاياته المملة
إلى فضاء بِكْرِ لم تلوّثه بعدُ أصداء بشرية .
ورميتُ نظرة على أرضٍ لا أريد أن أعرفها .
وتركتُ على المَرْكبة الفضائية مقعداً خالٍ يسعُ لحُلمين آخرين
فمن يرغب السفر معي, عليه التخلّص من أسنانه اللبنية الرذيلة
كي لا يعضُّ على نواجذه كلما تذكّر تلك الأرض اللعينة
. . . . . . . . .
الفراغ الذي يملأني الآن,
يدفعني دفْعاً إلى زحل .
ويتشابك معي في فراغ آخر يصدم عينيَ المثملتين,
فيُخْرِج من رئتيَ صاروخاً برابولياً, قابلاً للتكاثر,
. . ( تيتان ) ليس ببعيد عنكم أيها السعداء . .
هكذا صرّح قائد السفينة الكمومية *.
فاربطوأ الأحزمة الضوئية جيداً,
حتى لا تأخذكم سِنة من النوم ,
فتفقدوا مُتعة النظر إلى اللاشيء
واتركوا صُواعِ الملك الغبي ليلهو به وحده ,
قبل أن ينتبه إلى عينيه الحُولاوين,
وهما يقفزان وراء عصفورٍ ضلّ طريقه نحو القفص الحديدي .


حسن حلمي ــ مصر


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*تيتان : أكبر أقمار كوكب زحل
*السفينة الكمومية : مركبة فضاء مستقبلية لم يتم اختراعها بعد تعمل بالطاقة السالبة حسب النظرية الكمومية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى