د. سيد شعبان - حلوى شعر البنات

تقترب الساعة من السابعة صباحا، يأتي القطار فيترك كل واحد مكانه على الرصيف؛ يعدو خلف العربة التي يخمن أنه سيجد بها موطيء قدم، صراع على الوسيلة شبه المجانية التي بقيت منذ عهد الأجداد،يتقافز بعضنا فوق بعض منا من يتهرب من دفع الأجرة وكثير يماطلون محصل التذاكر حتى إذا جاءت محطة النزول كان الإعياء قد بلغ به حدا لا يمكن مقاومته، قد يسعد الحظ أحدنا فيرتمي على مقعد خال؛ رائحة المسافرين تشي بأن هؤلاء قادمين من عالم آخر، نظرات مريبة وتلامس غير بريء؛ إنه مجتمع متخم بعطن لا يمكن تحمله، شباب يحتلون أرفف العربة؛ يتندرون على متسول يدعي العمى؛ لص يتبعه فيسرق ما احتوشه متذللا لهؤلاء الركاب الذين يكادون يدبون على وجه الأرض؛ الأتربة تزاحم الركاب؛ جبن ولبن في أوعية أسفل المقاعد الخشبية؛ صياح الديكة يختلط بهرج ولغط يشبه سوق تدور رحاها؛ نظرت فإذا به متكوم وراء الباب؛ لأول وهلة ظننته هاربا من محصل التذاكر، لا تظهر عليه علامات ترقب؛ إنه في عالم آخر، ينظر من نافذة القطار ويبتسم، هل تراه يعيش في عالم آخر؟
يمر به المحصل فلا يلتفت إليه، إنه يكاد يحسبه متاعا من تلك المتراكمة في قطار السابعة، تتعطف عليه امرأة ريفية برغيف خبز وقطعة جبن؛ يتناولها في غير اهتمام، ربما يرى ذلك عادة لا يجب عليه الاحتفاء بها.
أو أنه هذا حق له طالما يركب ذلك القطار؛ فكل هؤلاء يدعون ملكية كل شيء؛ رغم أن عهد فوضى القطاع العام قد ولى بغير رجعة.
- تساءلت عما يمكن أن يشغله في تلك الساعة وهذا القطار لا مكان فيه لغير البائسين مثلي الذين يتحايلون على الأيام؛ لو أن كل هؤلاء الذين تعج بهم تلك العربات الحديدية دفعوا ثمن ركوبهم؛ ربما استطاعت هيئة السكك الحديدية أن تشتري قطارات كهربائية؛ أو لعلها تأتي بأجهزة تكييف، لا أدري لم انصرفت عن متابعته؛ تواردت إلى ذهني أشكال لأناس كانوا يسافرون في قطار السابعة صباحا؛ طلاب جامعات يتحدثون في كل شيء؛ تزدحم رأسي بطنين كلامهم؛ وتلاميذ مدارس يعبثون بمحتويات العربات؛ يتقافزون في صخب، يجري وراءهم حارس المحطة، يتوعدهم لكنه في كل مرة يترأف بهم، ماذا يفعل بالذين تدفع بهم أمهاتهم إلى قطار يدعى ملكيته هؤلاء الفقراء؟
ثمة باعة يعرضون أشياءهم البسيطة من حلوى سمسمية وشعر البنات الذي كان يستهويني كثيرا؛ أدفع نصف جنيه مقابل كيس واحد أضعه في فمي ولكنه لايني يذوب سريعا؛ هل لأن البنات يخدعن هؤلاء الذين يرمون بلحاظ عيونهم صيدا للشاردين أمثالي؟
أعاود النظر إليه؛ يكاد يختنق من كثرة العلب المحيطة به، تتكوم حوله حقائب المسافرين؛ يبدو أنهم يحسبونه بلا فائدة؛ يقول أحدهم: إنه بلا بطاقة هوية؛ يحدثهم عن عصفورة خضراء كانت تغني له؛ ينتظرها كل يوم في هذا المكان!
تلك الفتاة كان هواء النافذة الساخن يلفح وجهها الذي تورد؛ تخرج منديلا ورقيا فتمسح العرق الذي يغمرها، تصاب بالحيرة، ثمة من يشاكسها، يعلوها الخجل، يدفعني شعور بالحنو ناحيتها، تحدثني عيناها حديثا صامتا، أقترب منها، تناديني: أين كنت؟
- أجيبها في نغمة اعتذار؛ هنا.
لكن القطار مزدحم؛ تحاول أن تفهم من يسمعنا بأنني أحد أقاربها؛ زوجها؛ لا!
لايمكن هذا؛ فياقة قميصي متسخة لدرجة يصعب معها تصور أن واحدة ذات ثياب أنيقة ابتليت بقطار السابعة قد تكون متزوجة بهذا الفوضوي الذي يتكوم قميصه أعلى بنطاله مما يلي كرشه أشبه ببالونة يعبث بها الصغار ولم تمس ماكينة الحلاقة شعر رأسه بل استطالت لحيته فغدت نافرة كأنها في حداد متواصل.
أتجاوب معها رغم حذري من أن يكون أبوها أو أيا من معارفها بالعربة؛ تطلب مني أن أدفع ثمن تذكرة القطار؛ يعلو صوتها؛ لقد تلكأت في قطع التذكرة ظللت تمعن في النظر إلى وجه المسافرين الذين يملؤن المحطة؛ تدير عينك في هذا وتلك؛ بالفعل كنت أبحث عن صديق ظننت أنه قد يركب قطار الساعة السابعة؛ يقف عند جذع شجرة الكافور العملاقة؛ كنت أتسامر معه؛ تخبرني مرة ثانية: ونسيت أن تحمل أمتعتنا التى أرهقتني؟
على أية حال نقدت محصل التذاكر الثمن، تبتسم في مكر خفي؛ حولت بصرها عني؛ أخذت تنظر إلى الأشجار يصرعها القطار، يعدو كلب في الجهة المقابلة ويرفع عقيرته بنباح متواصل؛ أتحسس حافظة نقودي؛ يد تحاول أن تعبث بها؛ أغير موضعي؛ ينطرح غطاء رأسها فيبدو من تحته شعر أسود طويل يتراقص!
أعاود النظر إليها؛ أراهن أنها تعرفني؛ أسرح وراءها في خاطر متتابع؛ أجدها زوجتي؛ صغاري يلعبون من حوالينا؛ تقدم لي كوب الشاي، ترفل في ثوب حريري، تشبه الحلوى التي أشتهي تناولها يوما؛ لكن تلك الفتاة ذابت بين الركاب كما لو كانت تلك الحلوى في الفم؛ أعياني البحث عنها؛ سرى خدر في جسدي؛ غلبني النعاس؛ لم أنتبه إلا وأنا في محطة أخرى؛ يجول بصري بين الركاب فإذا به ما يزال يبتسم وينظر إلى كائنات هلامية في عالم آخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى