مناف كاظم محسن - تأملات رجل عادي جداً

من الأفضل لي أن أتذكر البداية التي من خلالها تعرفت على الأشياء من نظرتي الأولى، ولا أنسى النهاية التي كتبت لي منذ ولادتي. الصيف له خطواته الأولى، لكنني اليوم أعيش لحظات تأملية رائعة وفريدة من نوعها مثل شروق الشمس وغروبها. فعندما أرى الشمس من خلف زجاج نافذة غرفتي قريبة من الأفق، ولم تكن مشرقة وحارقة بعد، أحسّها مثلي أنا الطفل الملفوف بقماطي الأبيض وأبكي كثيراً حتى تأخذني امّي بحضنها الدافئ وترضعني حناناً وحباً لا ينتهي. أو مثلي أنا الآن رجل عجوز يغادر هذه الدنيا المليئة بالآثام والرذيلة. فالطفل الذي بداخلي لا يزال يحلم بمستقبل مشرق، والعجوز الذي يسكنني الآن لديه ملخص حياة طويلة تعكس تاريخ الحروب وبشاعة القتل الجماعي. لا، هذا ليس "غروب الشمس"، إنّه رمز لإكمال مرحلة معينة من حياتي الضائعة، رمز للنمو. مرّ يوم آخر، واليوم يمر ببطء شديد، والغد سيمر ببطء أشد. في مكانٍ ما في الأفق البعيدة تدور ببطء، ابتسامات أُولَئِكَ الذين كانوا سعداء في يوم ما، وغدًا سيعرف الآخرون الحب الالهي وسيذهبون في طريقهم الخاص نحو الفردوس ذي العشب الأخضر، ثم ينحدرون ببطء. كل يوم تغرب الشمس لتستريح من كل هذا العناء الذي يرسم نفسه، وغداً بقوة متجددة ستبدأ في إنارة الطريق لأولئك الذين يولدون. يتبع الغروب دائماً الفجر الناعم، وحتى بعد أشد اللّيل حلكة وأبردها يأتي يوم مشرق ودافئ.
سوف تطفو الشمس ذات الخيوط البراقة اللطيفة مثل قارب يعبر السماء متعددة الألوان ببطء، بشكل مهيب، وتعانق الأرض بضوئها الوهاج. أتنهد، أنظر من وراء الغيوم، ثم أختبئ هناك ... كظل بعيد. تسبح الغيوم في السماء مثل الريش بضربة من اللون الأرجواني وتبدأ في إشعاع الإيمان والأمل. أمشي على طولها حافي القدمين كما هو الحال على العشب الناعم أو على الرمال الذهبية. وإذا استغرقت بالنظر للغيوم بشكل أقوى، أغرق في ذرات الضباب.
عند الفجر. وعند غروب الشمس، تتحول السماء أولاً إلى اللون الذهبي. ثم يتحول إلى اللون الأحمر، ثم يبدو مثل الفحم الساخن. ستظهر بعد ذلك خطوط أرجوانية فاتحة. ستبدو الشمس ضخمة جدًا، فأمدّ يدي لأمسك بخيوطها البراقة، و ... ها هي - قريبة جدًا، في راحة يدي.
قريباً ستكون حافة السماء أرجوانية، ولكن الآن صارت الخطوط العريضة الداكنة لعشبة الصبار بأنماط من الفروع والاشواك. رائحته مثل العشب الناعم والزهور الملونة والأرض المغروسة بأشجار التين والزيتون. في شبه الظلمة، يمكنني فرز قواطع النجوم المتلألئة، ونسج أنحف قطعة قماش منها وأخفي نفسي بها، كما لو كنت أرتدي بطانية في الليل، بينما أرتل بهدوء آيات من القرآن، بقلبي المريض هذا وفي انسجام تام، مثل التهويدة. ويمكنني أيضاً تحقيق الآلاف من الأمنيات من خلال التقاط النجوم الصغيرة في راحة يدي.
ليالي الصيف قصيرة. عند الفجر، قبل شروق الشمس، يغطى الماء والمروج ضباب أبيض مثل الحليب الطازج. وخلفه بشاشٍ رقيقٍ فوق الأشجار المتشعبة الأغصان والأوراق، سوف يرتفع فجر وردي ناعم. أو مثل هذا الصباح: إنه ضوء النهار تقريباً، لكن عكس القمر، الجمال مذهل. والغيوم ملطخة بفرشاة رسام ناعمة تحتفل بكل هذا الجمال السحري، أتنفسه فقط - ولا أتنفس غيره! أنا الشاهد لكل هذا الإلهام، وحدي في هذا المدى المفتوح لأسئلة التائهين والباحثين عن معنى الوجود، ولا أحد معي كي يغمره الفرح الطفولي مثلي. وفجأة يصبح باردًا لدرجة أنه يؤلم عيني من لمعانه! يملؤني فجر الصيف العطر بمثل هذا الفرح المنعش، والذي أيقظ في قلبي الرغبة في التنفس بعمق والعيش هنا في هذا الفردوس المفقود. مع كل فجر تولد حياة صغيرة وتنتهي.
يا إلهي لم أعد أستطيع اللّحاق بكل هذا السيل الجارف من الأفكار والكلمات التي تنهمر كالشلال من قمة رأسي الى الوادي السحيق الذي يغرقني بالصور واللّوحات التي رسمت بأنامل طفل صغير تأخذه البراءة لأنهار الجنة وشذى عطرها البهي. لذلك وجب عليّ السكوت والتأمل كي أكون أنا وليس أحد آخر غيري.

مناف كاظم محسن
العراق - البصرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى