مناف كاظم محسن - خذ الذي يعنيك وانصرف

خذ الذي يعنيك وانصرف أيقظني صوت امّي فنهضت مترنحا، لا أزال تحت تأثير كابوس ليلة البارحة نظرت في المرآة وأنا أغسل وجهي كان شاحباً جدّاً. يا ألهى متى أتخلّص من تأثير قصص جدتي، كانت لا تتعب من حكاياتها الطويلة التي لم أستطع الصّمود ليلة واحدة دون أن انام قبل ان أعرف النهاية. يهزمني النوم دائما، كنت أعرف البداية وربما أقاوم النعاس حتى منتصف الحكاية لكنني لم أعرف النهاية أبدا، وكلّما حاولت ثانية في اللّيلة الأخرى يغلبني النوم. وفي المدرسة عندما اكتشفت القراءة صرت أقرأ القصص الطويلة كل ليلة، أقرأ الفصول الاولى ثم أهمل الوسط لأقرأ الفصول الأخيرة كي أعرف النهاية قبل أن يهزمني النعاس. تلك متعتي الوحيدة التي لم أشعر بالملل منها حتى وقت متأخر من حياتي. لا أدري لماذا كلّما اقتربت بتوجس من المقبرة القريبة الى حدّ بعيد من منزلنا يركبني ألف عفريت. وكلّما نظرت اليّها من خلف نافذة غرفة جدتي تتسارع ضربات قلبي بشكل جنوني، ترتعش اصابع كفي ويضطرب عقلي بخيالاتٍ مشتتة. الأشياء من حولي تزداد شدّة الوانها وترسم اشكالاً عاليةً كثيفةً غير ثابتةٍ تتغير بسرعة، الكلاب تصبح كائناتٍ مسعورة لا تعرف الرّحمة فيما بينها وتخدش بمخالبها سكينة العالم من حولي، أنيابها الطويلة تقطر دما، ولسانها الممدود ينز لعابا مسموما، وعيونها المتوقدة ضائعة بين سواد الليل وسكونه المشحون بالخطر المتربص بها، تنقض كالنمور الشرسة على كل غريب يخترق قدسيّة الأموات الصامتة منذ الازل والى الازل. كل شيء يأخذ شكلاً آخر، تمسخ الأشجار السّاكنة وتزداد تفرعا وغربة. العتمة تمتد عميقا ملتهمة صحوة الأسلاف البالغين في حكمتهم انتصاف النّهار ونشاطه. العتمة شياطين شريرة تحوم حول رأسي سارقةً مني رحمة الإله وعناية الأولياء الصالحين ولا يبقى غير الصدى المؤلم الراكض خلف رفات الموتى وخلف أنياب الأشباح الشفافة التي تخترق صلابة الاجساد هازئة من مادية الأحياء السائرين خلف الزوال كالعميان. كل شيء يأخذ شكلا آخر ويموت..... تولد العتمة من رماد الموتى وتحلق في فضاء المقبرة. تحتضن نافذة غرفة جدّتي لتموت ثانية مع بزوغ الفجر وشروق الشمس المباركة. عندما كنت صغيراً كانت تحرسني عناية جدّتي. قالت لأمي: - (اعتني بأبنائك الآخرين واتركي لي آخر أحفادي كي يبعد عني وحشة الّليل وكي أحس اني لازلت تحت ظلال جدّه). وتدخلني رغماً عني لعالمها المليء بالعفاريت المشاكسة وشياطين النار ومملكة الجن التي تكره أطماع بني آدم وسلطته الخاوية في هذه الدنيا الفانية. صغيراً صرت بين أحضان جدّتي أخاف بلا سبب وأرقب غرابة هذا العالم بلا سبب. أطمع أن أتوغل في غموض العالم بقليل من المعرفة وكثير من التوجس والعتمة والاحساس بكل ما يمسخني خاطئاً، رديئاً، حالماً، لا أعرف غير سحر الأناشيد المدرسية وحماية الأدعية المقدسة، وعاطفة الجنيّة الممسوخة التي تلاحقني اينما ذهبت. في كل مرّة أجدها داخل نفسي، وتجدني داخل نفسها، جنيّة تلامس خدي بأناملها وتمتص بشفاهها دمي. تلسعني بنار الموتى ثم تعود حزينة كي تنام بين القبور المهدمة. (لقد أكّدت لي جدتي مراراً عندما كانت تحكي لي عن الجنيّة الممسوخة بأنّها لن ترحل الى عالمها السفلي الّا بعد أن تأخذني معها). تسحرني بغنائها وتجرني مذلولا لطريق المقبرة ثم تفزعني بأنيابها وسواد ردائها المنسوج من رماد القبور المسكونة. في كل مرة أجد نفسي صغيراً يبكي، أبحث عنها في كل الامكنة، وأهرب منها من كل الامكنة. في بعض اللّيالي الموحشة تمتد يدها الشبحية بتوجس تعتصر خفقات قلبي الصغير فتسكنه سارقة مني بزوغ فجر جديد لم يولد بعد. رغم عنادي الأول ورغم يقيني الأخير بأنها ليست الّا خرافة من خرافات جدتي وخوفي الساذج من قدسيّة المقبرة القديمة لكنّها لم تزل حتى وقت متأخر من حياتي تقض مضجعي وتهددني بعالمها السفلي الذي لا يعرف من صلابة الواقع الّا شكلاً ومن حركة الأجساد الّا جهلاً وبلاهة. في ليالي الشتاء القارص اعتدتُ الجلوس قرب المدفأة منصتاً لجدّتي، لعاطفة صوتها الشجي الذي ينسج مع دفء النار صوراً كثيفة، مخيفة لكنها مثيرة. يرتفع صوت جدتي المحبوب قائلة (قال الاولون..... اختطفها المشعوذون، قتلوا أطفالها الصّغار أمام عينيها عقاباً لها لسخريتها منهم وجرأتها التي أرعبت بها نساء زمانها ووقاحتها التي هاجمت بها سحر المشعوذين وسطوتهم. ثم مسخوها جنيّة حزينة متوحشة تلاحق الصّغار. تخطفهم من بين أحضان امّهاتهم كي تمتص دمائهم ثم تبكي أيّاما وليالي بعد كل طفل تقتله وتفشل في أن تمسخه جنياً صغيراً يبعد عنها وحشة القبور وضلال الأشجار العالية. جميلة كانت، سحرت بقوامها الرّشيق الأنس والجن ولكنّها لم تكن لأحد الّا لزوجها التاجر اليهودي. في كل مجلس كانت تسخر من مشعوذي اللّيل وغبائهم. وترفض التعطر بالبخور المقدمة اجلالاً واحتراماً لهم مثلما يفعلن نساء ذلك الزمان. وجهها كان حقل قمح ذهبي، عيناها كسواد اللّيل الصافي، ووجنتاها بنعومة الفجر. نهداها طائران صغيران من الفردوس، يسيل من حلمتيها شهد لا يتذوقه ويتلذذ به الّا الملوك والسلاطين. تعرف الرقص والغناء لكنّها لم ترقص الا من أجل زوجها ولم تغنِ إلّا من أجل صغارها الثلاثة). تلك كانت جنيّة المقبرة التي تتقمص كل وجوه النساء قناعاً وترتدي أجسادهن أثواباً كي تثيرني وتخدعني ثم ترمي القناع بعيداً عنها في اللّحظة الاولى التي تخطفني من بين أحضان جدّتي. (سوف تتأخر عن الكلية ) أيقظني صوت امّي من خيالاتي المشتتة. كنت قد أنهيت فطوري. يا إلهي ... كانت أيّامي الأولى في الكليّة كئيبة للغاية. لم أستطع التعايش مع الطلاب، وكنت منعزلا عنهم. أصبحت القراءة العزاء الوحيد لشعوري بالوحدة. لكن بعد خمس سنوات ظهيرة أحد أيّام أيلول عندما كنت حاضنا بندقيتي في الخندق، ومثقلاً بشريط الرّصاص الذي يلف جسدي، تذكّرت ذلك اليوم لمّا كنت أبحث عن مكان منعزل في أحد جوانب الكلّية كي أقرأ رواية قد استعرتها من المكتبة، عندما وقفت أمامي احدى طالبات صفي. فسألتني عن الكتاب الذي بيدي. لقد تحدثت طويلاً عن قراءاتها السابقة وهي تتصفح الكتاب أمامي، ثم جلست بجانبي أثناء المحاضرة تاركةً فخذها الأيمن يلامس فخذي الأيسر. مرّ الوقت سريعاً دون أدنى حركة مني. في تلك اللّحظة لم أكن أبصر عيونها الكحيلة ولا أنفها الصغير ولا شفتيها المرسومتين بالأحمر القرمزي ولم أحدق بنهديها المختبئين تحت ثوبها الازرق الداكن الملتف حول جسمها الممشوق كعاشق مجوسي أحرقته النّار المقدسة، ولم أحاول أن أسرق نظرة خاطفة لساقيها العاجيتين، كنت جالساً بجنبها فحسب، وجهي ممدود للأمام لا أبصر شيئاً، منتشيً برائحة الانثى الخالدة المتغلغلة بأنفي محطمةً جميع الأبواب والنوافذ المغلقة بذاكرتي، شاعراً بجسمي قد صار خفيفاً كالريشة المقلوعة من طائر الهدهد. وفي الظهيرة ودعتني عند بوابة الكلّية بعد أن أخذت الكتاب معها. صرت وحدي فجأة. أخطو فوق الأرصفة المبتلة مسحوراً برائحتها العبقة. لم أكن أرى الشاحنات الصاخبة وهي تجتاز الشارع مسرعة، ولا واجهات المحلات التجارية، ولا المتسولين القاعدين متعبين على جانبي الرصيف الاسفلتي، ولا الصغار الراكضين عائدين من المدارس، ولا العاملين المنهكين بملابسهم الرثة، ولا عباءات النسوة المتراقصة مع الرياح الباردة. كنت أرى فقط ظلالا متحركة وألوانا برّاقة تأخذني بعيدًا عن هذه المشاهد اليومية المتكررة. وعندما وصلت للمنزل، دخلت لغرفتي ولم أذهب للمطبخ كي أسأل امّي عن الغذاء مثلما أفعل كل يوم، أغلقت باب الغرفة ورميت بنفسي على السرير محدقا بسقف الغرفة فترة طويلة. نادتني امّي كي أتناول الغذاء فنهضت خارجا من غرفتي كالماشي أثناء نومي ثم عدت ثانية على السرير، محدقاً بسقف الغرفة دون أن أحس بالدقائق والسّاعات الراحلة. أيقظني صوت امّي في المساء فنهضت متكاسلاً وخرجت. عدت بعد تناول العشاء مستلقياً على السرير، محدقاً بسقف الغرفة. ولمّا غلبني النعاس رأيتها بثوبها الأزرق الداكن وقد أخذتني في رحلة جميلة بعيدة عن تعقيدات الواقع. وفي اليوم الثاني وصلتُ مبكراً. جلستُ في آخر قاعة المحاضرات منتظراً وصولها. كانت الدقائق تمر ثقيلة بلا معنى. أخيراً دخلت الى القاعة في اللّحظات الأخيرة قبل بدأ المحاضرة. كان وجهها مشدوداً. صعد الدم سريعا لوجهي واضطربتْ ضربات قلبي. أحسست بوجهي يلتهب وأنا أُبصرُ انحناءات جسمها منتظراً جلوسها بجانبي لكنّني خفضت رأسي وشعرت بالخيبة كالعلقم الذي ابتلعه رغما عني حينما جلست بجانب زميلتها في الجهة الأخرى من القاعة تاركة ايّاي كالطفل الذي يبكي دافنا رأسه في صدر امّه. كان اسمها سارة. حفيدة مقاتل عثماني عرف عنه الشراسة والولاء الاعمى للسلطان. لكن بعد سقوط الدولة العثمانية التحق هو وعائلته بإحدى القوافل الهاربة من بطش الثوار الغاضبين على كل من يوالي السلطان المنفي، والمهاجرة للشمال الذي يسكنه الاكراد المعروفين بحبهم للقتال والصيد. كان على القافلة ان تجتاز الحدود التركية في احدى الليالي التي يكون فيها القمر مختبئاً بين الغيوم فيصبحون أشباحاً غيرَ مرئيةٍ يمكنها اجتياز العساكر دون أن يحسوا بهم فيقبضون عليهم ليكون مصيرهم الموت. ومن أجل سلامة القافلة اقترح رئيسهم أن يشد حول خصره حبلاً متيناً ثم يمدّ الباقي منه الى الآخر الذي يتبعه لكن دون أن يميز خطواته كي يشدّه حول خصره ويمدّ هذا بدوره الباقي من الحبل الى الآخر خلفه. وهكذا حتى آخر فرد في القافلة الطويلة. لقد واصلوا رحلتهم بلا حديث صامتين (الرجال، النساء، الشيوخ، العجائز، الصبيان، البنات والأطفال الخائفون من ظلام اللّيل وسكونه المشحون بالخطر). لم يشهدوا أقسى من هذه الرّحلة طيلة حياتهم. كان الصراع ضد شبح الموت والفناء ومن أجل حياة أخرى بعيدة عن أهوال الحرب والانتفاضات الهمجية حفز فيهم الشجاعة والصّبر وتحمل الجوع كي ينهوا هذه الرّحلة بسلام. (ليال طويلة نقضّيها ملتفين حول جدّتنا نتخيل تفاصيل هذه الرّحلة حتى صارت ارثنا الوحيد الذي لا نستطيع التخلّص منه مهما حاولنا) قالت سارة قاطعة حكاية أجدادها، ثم خفضت رأسها وسكتت فترة طويلة كنت خلالها أتأمل الحزن المرتسم على وجهها. لكنّها استنشقت نفساً عميقاً وواصلت حديثها كأنّها تعيش الحدث مع أجدادها. فبعد التخلّص من العساكر المدججين بالأسلحة كان بانتظارهم خطر الذئاب المفترسة الجائعة، وبعد التخلّص من الذئاب كان عليهم أن يباغتوا قطّاع الطرق السّاكنين في الجبال والذين يتخذون من اللّيل حارساً أمينا لهم. وصلوا أخيراً لقرية صغيرة في الشمال سكنوا فيها سنوات، ثم هاجروا مرة أخرى بعد اندلاع الحرب بين عصابات الجبال والسهول لكن هذه المرّة الى أقصى الجنوب. فاستقروا هناك حتى آخر يوم من حياة آخر حفيد منهم متخذين من المنازل القديمة مسكناً لهم. ولدت سارة في زمن السّلم. لم تعرف الهجرات القاسية تحت تهديد العساكر وخطر الذئاب وغدر اللّصوص الذين يلبسون الدروع الفولاذية، ولم تشهد غدر العصابات التي أتعبتها الحرب لكن زادت من قسوتها ورغبتها في القتل والتشرد، ولم تعرف برد الشمال القارص الّا في أحاديث العجائز والشيوخ والصور القديمة التي أتلفها الزمن فأصبحت مشوشة. كانت القلادة التعريفية للجندي حول رقبتي قد حكمت علي أن أكون منفيا في كل مكان. الدودة أكلت الوردة في دجى اللّيل والرصاص يلتهم الأجساد التهاماً. بان الصباح على وجهي وأنتشر الغبار قاسياً في أرض المعركة تاركاً انطباعاً غاضباً. لم أكنْ أُحرك وجهي احتقاراً، كنت متمرغاً في الطين من أجل وطن قد تمرغ معي في الطين أياماً وليالي كي يحرك وهماً متجدداً في اعماقي. أمضيتُ سنيناً محاولاً حشر نفسي في تناقضات هذا العالم، دافعاً خيالي المتخشب كالإسطبل نحو الأمام كي أفهم بعضاً من أحداثه الغريبة عن نفسي ولم يبق لي غير التصرفات البليدة في التصنع والتمثيل الخائب في وطن غارق حتى النهاية في الطين، وانتهيت الآن في حرب غامضة سارقة مني وجود كل من أحببتهم وعشت فرحاً بتأمل حكاياتهم. خلف المدفع كنت شبحاً مظلماً، عارياً، متلاشياً لا أحد متلاش مثلي. فأنا بعيدٌ عن امّي وعن جدّتي رجل حرب. أتخيّل في بعض الأوقات ذلك الزمن البعيد لمّا دفن الأحياء مع الأموات، متوقعاً الألم، الخوف، العزلة، وأعني انتحار الكاهن، يوم كان الانتحار قدراً كالموت ولم يكن هزيلاً كالجواد الاعرج. خلف المدفع أتذكر وجه امّي الذي يَمْلأُني حضورها المباغت ويَمْلأُها انتظاري. ولمّا كانت تحتويني بعيونها السّاكنة كنت أتوارى كالحصان الوحشي الضائع في المراعي المغسولة بالأخضر الصافي فأصبح قذيفة مدفع أو صقراً محلقاً بين الغيوم. وانا لا أعني من الكلمات سوى ما تعنيه الكلمات، لا وقت لدي كي أعني ما أعنيه، ولا وقت لديهم كي يطلقوا الرصاص علي فينتزعوا جسدي. كان يوماً قائظاً حينما وصلت بلا اكتراث مع بقية الجنود الى أرض المعركة وخسر العالم نفسه. بقينا عشرة أيّام مبعثرين، مشتتين، يخنقنا الغبار، لا نتذكر سوى أرواح الجرحى الزاحفين الدافعين الاقنعة الفارغة كي يحشوا شيئاً بارزاً او قادراً على توليد اصوات قذرة. أصبحت شخصاً متذمراً صارخاً. كنت اذا ما فرغت من تنظيف سلاحي أستلقي مستأنفاً الحديث عن الخيول السريعة كالسهام والأوسمة العسكرية واصفاً لفترة طويلة الجزم الجلدية ونساءً هزيلات يمارسن كل اشكال العشق فوق الحشيش الناعم، وقرب الخيول المحبوبة، مستغرقاً في الاوقات العصيبة برائحة سارة العبقة لما كانت الزهور المتراصة حولنا تولد حفيفاً كثيفاً كالموت المعتم الزاحف بطيئاً من بين العرق المتطاير ثم يحلّ علينا بلون الستائر الباهتة. كنّا منعزلين عن العالم الصاخب. ولا أتذكر الآن (وسط الغبار الساخن في الخندق) الّا يدها الناعمة كالبرتقالة وهي تلامس جسدي الرصاصي، أبقى ساعات منصتاً لأنفاسها متخيلاً الخيول الراكضة فوق البرسيم وجداراً عالياً وقبعة سوداء طويلة فارغة وأشجارا خضراء عالية وقططاً سوداء تموء قافزة فوق الجدار، ثم شجرة يابسة وقبعة زرقاء واوراقاً متناثرة ونساءً راقصات تمنحهن الأرض المزروعة رائحة الأنهار. كانت سارة شامخة، مرتبكة ارتباكاً توارى خلف المقاعد والأوراق المتساقطة التي لم ينظر فيها أحد. تضع ثوبها الاحمر فوق رأسي وترقب انزلاقه عني ضاحكة، تستطيل بجانبي مثل قطرة مرئية تتبعها قطرة أخرى ثم تتحرك كالعجينة في الظل ، أشعة تتعاظم في الظل، فوق خوذة المحارب المتروكة بعربات الموت قبل اكتشاف البارود الأسود فأصبح الآن قدرنا المحتوم. كان صوت الرصاص وأنين الجنود الجرحى قد جعلني أتكور في الخندق المظلم، منصتاً لأصوات الجنود الغاضبة ربما تمرداً ضد هذه الأرض التي تبتلع في أحشائها كل من يتخاذل او يستسلم لخوفه الصامت، او ربما كي يرحل الموت بعيداً عنّا كالرياح الثلجية المندفعة باتجاهات غامضة ناسية هؤلاء الجنود المثقلين بجراحاتهم تاركين أحلامهم في عيون النساء الجالسات ينتظرن الحب الأول يلتحف الأجساد البراقة، او ربما كان خوفاً مكبوتاً داخل نفوسهم المعتادة رتابة الحياة اليومية ناسية تدفقها الصافي كالأنهار فتكون كتلة واحدة تموت بلحظة وتعيش بلحظة .. لا أدرى. لقد فرّ الجنود ولم بيق أحد قربي سوى الموتى والجرحى. أنصتُ لقصف المدافع ورنين الدبابات وقصف الطائرات المرتفعة نجوما قاتلة في السماء، والوقع المكتوم للجزم الجلدية الضاربة في الأرض أشبه بالطبول الأفريقية. كانوا يقتربون مني. أسمع صدى أصوات الجزم الجلدية تضرب الأرض مقتربة أكثر فأكثر. ارتفع جسمي كالريشة في الهواء ثم سقط في الخندق متمرغا بالتراب بعد أن انفجرت القنابل بين أجسادنا. حاولت التركيز رغم الآلام بعيداً عن أنين الجرحى من حولي فرأيت نفسي متكوراً وأعضاء جسمي كلّها ترتجف من الخوف ربما، او من البرد لا أدرى، كنت مشوشاً وكل شيء حولي كان مغبراً. اختفى كل شيء ولم أعد أسمع أنين الجرحى ولا أصوات المدافع والدبابات. أحسست بضياء ساكن داخل نفسي المتعبة ويد امّي الحنونة تمسح على رأسي وحضنها الدافئ صار كل عالمي. نسيت كل شيء وانا أسمع صوتها الحزين ودموعها الساخنة تبلل وجهي المغبر، كانت هي ملجئي الأخير الذي يحميني من كل شرّ يُصيبني في هذا العالم الوحشي. (جدّي .... حان وقت النوم) قال الحفيد لجدّه الجالس متكوراً خافضاً رأسه بين رجليه، صامتا منذ فترة طويلة أحسّها الحفيد دهراً كاملاً. اتكأ الجد على حفيده وسارا معاً الى الفراش، تمدد دون أن يعترض على شيء ثم غطى الحفيد جدّه بعناية، ناظراً الى عيونه التي تعكس امتنان الجد له وتخيله يبتسم ابتسامة كان يحبها ويتمناها منذ أمد طويل. أراد أن يركض لامّه كي يخبرها فرحاً (امّاه ... امّاه ... جدّي ابتسم لي لقد رأيته يبتسم لي وحدي) لكنّه بقي ينظر الى جدّه الذي راح في سبات عميق.. عميق. مناف كاظم محسن العراق – البصرة


بقلم مناف كاظم محسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى