عبدالكريم يحيى الزيباري - لحم بعجين حكومي.. مسرحية من ثلاثة مشاهد

[HEADING=2]الشخصيات[/HEADING]
حكم: شاب بدين صاحب مطعم فلافل

ربعي: عامل المطعم.

الحاكم العادل:

الحكواتي:

جوقة حاملي المشاعل

إنانا:

الطبيب:

شَمَّاس:

الأم نِضال:

الخال خِلاف:

المعلمة:

حكم الطفل













[HEADING=2]المشهد الأول[/HEADING]


الوقت: بعد العصر بقليل. الزمن: أمس البعيد.

المكان: شارع عريض في مدينة صغيرة. مظلم طيلة العرض المسرحي بإضاءات متفرقة. الكهرباء تأتي ويصرخ الجميع فرحين. تختفي ويتذمر الجميع ويشتمون. فانوس قديم على الطاولة الثانية وسط طاولتين في مطعم صغير على الرصيف قرب الكشك وسط المسرح، لافتة صغيرة على الباب المفتوح: "فلافل حكومي". فوقها لافتة كبيرة أعلى الباب " لحم بعجين حكومي"، حول كل طاولة أربعة كراسٍ. ثلاثة زبائن متوزعين على طاولتين. بعض المارَّة يُدَمْدِمُون مع أنفسهم متذمرين متضايقين من طاولات المطعم على الرصيف.

خشبة المسرح فارغة والظلام تام. الحكواتي يتحرك مع بقعة ضوء فوق رأسهِ، يرتدي عباءة سوداء يخاطب الجمهور من على حافة المسرح:

الحكواتي: حَكم ذلك الشاب الجالس هناك في الظلام، ككل الشباب، يُفكِّر كيف سيفقد حريته بعد قليل، وهو يتعذب لأنَّ أحداً لم يأخذ ضياعه بجدية، سيقف بوجه الحاكم، ليس لأنَّهُ شجاع ويريد ذلك، مُجبَرٌ كان لا بطل. وكان يأملُ أنْ يعيش كالآخرين، لم يكن يعلم أنَّ مشكلةَ صغيرة من الممكن أنْ تودي بحريته! وسيضطرُّ عامله ربعي وصديق طفولته أنْ يبيعَ كليته كي يخلصه من السجن!

زبون1: أريدُ قليلاً من الصاص.

حَكَم: ربعي اجلب له الصاص.

ربعي: الفلسفة امرأة

زبون1: أريدُ ملحاً.

حَكَم: ربعي لماذا تنسى: لا فلسفة في المدن الجاهلة!

زبون1: أين الملح؟

ربعي: الفلسفة فرضيات حول الملح وما لا نعلمه!

زبون2: أريد سندويتشاً آخر.

حَكَم: ربعي جارتنا أم أحمد طلبت عشرة سندويتشات.

ربعي: جاهزة منذ نصف ساعة.

حَكَم: أوصلها بسرعة ولا تتأخر.

ربعي: خذها بنفسك.

زبون1: ربعي مجنون؟

حَكَم: أنتَ زبون مؤدب.

زبون1: ربعي مجنون؟

حَكَم: نستطيع أنْ نَصِفَه متفلسف!

ربعي: هاملت بدأ بشكوكه. الملك لير بدأ بأحكامه المسبقة، ونحن بدأنا: لا نكون ولن نكون، هذه هي حياتنا!

حَكَم يتوجه للجمهور بصفة حكواتي: ربعي كان أستاذ الفلسفة الحديثة في جامعة الفارابي، بشكوى كيدية من أحد الطلبة، صدر الأمر الديواني بنقله من وزارة التعليم إلى وزارة الزراعة بعنوان مفتش دواجن في سوق الجمعة! ربعي أنفقَ مدخرات العائلة، لينال ماجستير الفلسفة! وأنا أنفقتها لأفتتحَ هذا المطعم؟

زبون1: ليكن الله في عون الدجاج!

حَكَم: أنتَ زبون مؤدب وذكي أيضاً.

زبون1: أنا مفتش في وزارة الصحة!

حَكَم ينحني ويستبدل لهجته السَّاخرة: عذراً عذراً، لو كنتَ أخبرتني أستاذ!

زبون1: حالياً متقاعد!

حَكَم: أيوه، لقد أرعبتني!

حَكَم: ربعي، قبل أنْ تزرعَ شعر صلعتكَ، كنتَ أفضل!

ربعي: لا يمكن اعتبار عملية زرع الشعر سبباً!

حَكَم: لا شيء يحدث بلا سبب، أليس هذا مبدأ العِلَّة الذي صدعت به رؤوسنا؟

ربعي: لا.

حَكَم:
نعم فهمت، عدم وجود السبب، يُعتبر سبباً! أليس هذا كلامك أيضاً؟

ربعي: عملية زرع الشعر مجرد حُلُم!

زبون3: ما هذا؟ صرصار يمشي حول صحن الزيتون!

حَكَم: مطعمنا نظيف! هذه مؤامرة خارجية! وهذه المسألة ليست عندي! عند صاحب محل الزيتون.

زبون1: إذا كان الصرصار ميتاً، صدقت، وإذا كان حيَّاً، نَجَا صاحب الزيتون!

حَكَم: لا لا، لن أسمحَ لك بالتصوير. تعال ربعي.

ربعي: أُمْ مُدَانا" نيوتن يسألُ التفاحة، ونحن نسأل الصرصار؟

زبون3: سوف اتصل بالرقابة الصحية.

حَكَم: طُز بالصحة! أنا رجل أصلي وأصوم! أنا لا أخاف! طز بحرب بوتين! أنا القلب الشجاع! أنا آخر رجال الموهيكانز! أنا لا أخاف! عندي أحسن فلافل في العالم. ربعي، ما رأيكَ في هذا؟

ربعي: للصرصار تاريخ، والتاريخ نافذة على الحقيقة، والنوافذ كثيرة، كلها تدور حول التحدي والاستجابة كمعيار لنشأة وانهيار الحضارات. الصرصار يتحدى ويعيد طرح سؤال الوجود من جديد، ويجب أنْ تكون استجابتنا مختلفة!

حكم: الفلافل الفلسفية، لا تُقهر!

رجل بدين وأشقر وقصير يمشي غاضباً فاتحاً ذراعيه باتجاه المطعم، ومن حوله يتراكض الحراس بالزيِّ العسكري ينتشرون يُمنةً ويسرة في دائرة ووجوههم خارجها، في استعداد قتالي وجاهزيَّة عالية. اقترب حاكم المدينة، الزبون رقم واحد، غادرَ مسرعاً تاركاً طعامه، الزبون رقم اثنين أخذَ ما بقيَ منه معه. الزبائن البقية كذلك غادروا مسرعين.

أسرعَ حَكَم وجلبَ كرسيَّهُ إلى الشارع:

حَكَم: تفضَّل سيدي، تفضَّل أستاذ، تفضَّلوا سيدي. تفضَّلوا أستاذ تفضَّلوا، تفضَّلوا سيدي تفضَّلوا...

الحاكم العادل: ماذا لديكم؟

حَكَم: ألا تعرفني سيدي؟ أنا حَكَم.

قالها وهو يضحك متودِّداً.

الحاكم العادل: فلافل؟

ردَّ بجفاء واستهجان وانزعاج

حَكَم: مذاقٌ خاص سيدي.

وضعَ الربعي صحناً فيه سندويتش فلافل أمام طاولة الحاكم العادل، وهو يبلعُ ريقهُ خائفاً.

الحاكم العادل يقضم اللفَّة ويبتسم لحَكَم، ردَّاً على ابتسامته:

الحاكم العادل: كيف حالِ أُمِّكَ نضال؟

حَكَم: مريضة ومُقعدة كما هي سيدي!

رَفعَ رأسه، وقرأ لافتة المطعم الكبيرة: لحم بعجين حُكُوْمي.

الحاكم العادل: أيُّ شيطانٍ وسوسَ لكَ أنْ تُعتبرَ مطعمكَ هذا، مطعماً حُكُومِيَّاً؟ ها هه.

قضمَ لقمةً ورفع رأسه:

الحاكم العادل: أنا الحاكم العادل وهذا المطعم لي! ها هه ها هه.

حَكَم: فِداكَ أرواحنا وأموالنا سيدي!

الحاكم العادل: هذا الاسم غير جائز! هذا تزوير معنوي: في اللافتة لحم بعجين، وأنت تبيع فلافل؟

ضَحَكَ حَكَم وابتعدَ ربعي يكتم ضحكته.

حَكَم: أستاذ كما تعرف اسمي، حَكَم، والجميع ينادونني حَكُّومي! هه ها هه ها.

الحاكم العادل: هذا تزوير معنوي: تعلن لحم بعجين، وتبيعهم فلافل؟

حَكَم: سيدي! اتفقت مع الخطاط فلافل، لكنه كتب لحم بعجين.

الحاكم العادل: تعترف بأنَّها جريمة ولكنك تتهم الخطاط؟

حَكَم: صدقني سيدي، لم أنتبه إلا بعد تعليق اللافتة!

الحاكم العادل: وانتظرتني أنا الحاكم العادل أتركَ مشاغلي الكبيرة لآتي وأنبِّهك؟

حَكَم: سيدي كلفتني اللوحة ثلاثمئة وخمسين ألف دينار! إيجار شهرين كاملين. وسبعمئة ألف سندويتش، والطحين غَلا وكل شيءٍ غالٍ وسعر السندويتش كما هو خمسمئة دينار فقط!! هل يرضيك هذا سيدي؟

الحاكم العادل: ماذا لو تسمَّمَ أحد زبائنك أو لم يعجبه الطعام، سيشتم الحكومة؟

حَكَم: سيدي، أنا حَكَم وينادونني حَكُّومي! وذاك المطعم اسمه فلافل فهودي، وكباب حمودي..

الحاكم العادل: أنت مجنون؟ كيف منحوك الإجازة؟ أين البلدية؟ أينَ الرقابة الصحيَّة؟ أينَ المحافظ؟ أين الأجهزة الأمنية؟ أ لهذه الدرجة وصلَ استهتاركم بحكومتنا؟

حَكَم: سيدي لا تغضب رجاءً سيدي! غداً أرفع اللافتة، لا لا سأرفعها حالا.

الحاكم العادل: هذه ليست أول مرَّة يُستخدَم فيها اسم الحكومة!

حَكَم: سيدي لم يحدث أنْ دخلتُ مركزاً للشرطة في حياتي. سيدي أنا حَكُّومي بتشديد الكاف، وذاك فهودي وهذا حمودي وهناك علاوي، كلهم أصحاب مطاعم، ولا أحدَ منهم واجهَ مشكلة!

الحاكم العادل: أنتَ متهم باستغلال اسم الحكومة.

حَكَم: سيدي أنا مجاز رسميَّاً، واسم المطعم تمَّ تدقيقه في غرفة التجارة، ومنحوني موافقتهم بعد شهرين، لقد اخترتُ اسماً آخر رفضوه، كان العنوان الأول: لحم بعجين الشعب. قالوا تقصد لحم الشعب بعجين الحكومة! لا هذا العنوان ضد الحكومة!

الحاكم العادل: وكيفَ أفلتَ بفعلتك؟

حَكَم: اخترتُ اسماً آخر ورفضوه أيضاً.

الحاكم العادل: بالتأكيد كان ضدَّ الحكومة أيضاً، وإلا لماذا سيرفضونه؟

حَكَم: وحين اخترتُ حكومي وافقوا فوراً.

الحاكم العادل: رشَوْتَهم أم وعدتهم؟

حَكَم: سيدي، هذه إجازة الصحة مُعَلَّقة هناك على الجدار، وموافقة البلدية بجوارها، وموافقة البيئة والتربية، وهذه ضريبة الدخل، وهذه تبرعات إعادة بناء الجسور، وهذه الأوراق تثبت مشاركتي في حملة دعم الشهداء، وهذا التصريح الأمني، وهذه موافقة الاستخبارات، يا سيدي هذه الموافقات استغرقت سنتين وثلاثة شهور، والكثير من الأموال.

الحاكم العادل: تتهم الحكومة بالتقصير وتأخير مصالح الناس؟

حَكَم: أنا ابنك حَكَم، أنا ابن جارتكم خالة نِضال. أطلب الرحمة سيدي. سامحني سيدي. امنحني الفرصة وغداً لن ترى اللافتة ولن ترى المطعم ولن تراني!

قالها وهو ينزع الكرة الحمراء اللمَّاعة الملتصقة بأنفهِ، ويركع على الأرض.

الحاكم العادل: أمُّكَ معلمتي ولوالدكَ فضلٌ لا يُنسى، لكن هذا شيء وعملي شيءٌ آخر، لا أحد فوق القانون.

غادرَ القاضي غاضباً. يتقدم الجنود يأخذون حَكَم وعامل المطعم، يمانعون قليلاً، لكنهم يأخذونهم.

حَكَم: يا أخواني لكنه لم يدفع ثمن السندويتش!

خشبة المسرح فارغة والظلام تام. يدخلُ الحكواتي يتحرك مع بقعة ضوء فوق رأسهِ، يرتدي صوف خروفٍ أبيض، مُجلَّل بعباءةٍ سوداء، يخاطب الجمهور من على حافة المسرح:

الحكواتي: في البدءِ " كانَ اللَّهُ ولَمْ يَكُنْ شيءٌ قَبْلَهُ، وكانَ عَرْشُهُ علَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شيءٍ"، وفي البداية كان الناس سعداء، ولم تكن هناك ستلايتات ولا موبايلات ولا سيارات حديثة! لا شيءَ يتغير، ولا شيءَ يتحرك ولا يتلون، غير وجهُ حاكمنا المُبجَّل، وحاشيته تأكل ببلاش وتلبس ببلاش وتصطاف ببلاش وتتزوج ببلاش!

تدخل جوقة حاملي المشاعل، تقف في مواجهة الجمهور:

- انظروا إلى وجوههم، بلا قطرة حياء، يسرقون دون أنْ يخافوا أو يخجلوا، وممن يخاف مَنْ يمسِكُ بيدهِ المال والسلاح؟ احبسونا اقتلونا "إنَّما تقضي هذه الحياة الدنيا".

لحظة صمت، ويدورون في حلقة حول المسرح ثم يعودون:

- نحن نعرفهم، نعرف أسماءهم وآباءهم وأجدادهم، نعرف تاريخهم، نعرف المجارير التي خرجوا منها. نعرف وجوههم المستديرة، رؤوسهم التي لا عيون بها، وآذان الفيلة ترفرف فوق كروشهم المستديرة، موائدهم المستديرة، تحت القبة الخضراء الكبيرة المستديرة، والديدان طويلة وقصيرة، تغمر المدارس والجامعات، بخيطان من الخوف والجوع والدَّم، تتسلَّق منصّاتِ الرقيق المستديرة!

تدخلُ إنانا بزيٍّ بابليٍّ قديم، بيدها الدفُّ تضرب وتتراقص، تدور حول المسرح دورتين:

إنانا: إنا القديسة العاقِر، كلهم أبنائي، والأمور كلها لا تُبشِّر بخير.

يدخلُ حَكَم ببدلة السجناء الحمراء، يقف أمام إنانا، نحيلاً يدور حولها بصمت، ثم يجلس على الأرضِ أمامها:

حَكَم: أيتها القديسة البائسة، متى كانت الأمور بخير؟

يسعلُ حكم ويظلُّ يسعل. لحظة صمت ثم يكمل:

حَكَم: جدَّي قتلوه في أول انقلاب، شقيقه في الانقلاب الثاني، في الثالث استلمنا جزءاً من السلطة. وجاء الحصار، فَقَلَّ العدد وضاعت الأموال.

ربعي: لا أقدر ولا أريد ما لا أقدر.

الجوقة: لا تتفلسف، لا تتفلسف.

ربعي: لا أقدر أنْ أعلِّمَكم ولا أريدُ أنْ أعلمكم، أريدُكم أنْ تفكِّروا لماذا عدنا إلى الوعي الأسطوري؟

حَكَم: أنا مثخنٌ بِنِصِال القضاء، أزحف في ثياب السجناء، فوق جثث الخيول وطلائع الثورة.

يسعلُ حكم ويظلُّ يسعل. لحظة صمت ثم يكمل.

حَكَم: أسألُكِ يا قديسة عن أمِّي العجوز نِضال، أما زالت على قيد الحياة؟ عن جاري العجوز أبو عزيز بائع الألبان الذي أفلس، عن الصبية المشردين في إشارات المرور، والعجائز على الرصيف يَبعِنَ المناديل الورقية والماء البارد. وبحَّت أصواتهن: ماء بارد، ماء بارد. عن جاري أبو سمير صاحب سينما سمير أميس التي تحولت إلى مخزن أحذية، عن حمودي ابن جارتنا الأرملة، ثقبت رأسه رصاصة طائشة ذات صباح. عن أفواه وأرانب المحشوَّة بالإثم والأحقاد. تكلمي لا تغمضي عينيكِ، ألا ترينني مغلولاً مُهاناً في سجون النسيان.

يسعلُ حكم في يديه ويظلُّ يسعل. يري يديه للقديسة، ويقول:

حَكَم: أليس ثَمَّة طبيب، أشعرُ بأنني أختنق. انظري هذا دمي أشعرُ بأنني أموت.

يدخل الطبيب يرتدي عباءته البيضاء وهو يترنَّح كالسكران، ويتنفس بصعوبة:

الطبيب: أوكسجين، أوكسجين. أينَ الأوكسجين؟

يدخل شخصٌ عجوز بلحيةٍ بيضاء في زِيِّ شمَّاسٍ، يحمل بيده أسطوانة أوكسجين:

شَمَّاس: هذه آخر أسطوانة، بعدما أعلنتِ الحكومة أزمة أوكسجين. خذ هذا الأوكسجين الطازج أيُّها الطبيب، وارحل من هنا. فالعاصفة الترابية قد تصل اليوم أو غداً.







[HEADING=2]المشهد الثاني[/HEADING]
الوقت ليلاً. الزمن أمس.

خشبة المسرح مظلمة إلا من فانوس قديم. المطعم الصغير مكسور الباب والطاولات والكراسي مبعثرات على الرصيف. لافتة صغيرة على الباب المفتوح: "فلافل أُم حكومي". لافتة كبيرة أعلى الباب " لحم بعجين أم حكومي". سرير واحد وسط المسرح، تجلس عليه السيدة نِضال، مغطاة ببطانية حمراء. السيدة نِضال أُم حَكَم، تبكيه وخمس نِسوةٍ من المدينة جالسات على الأرض، لابسات السواد حولها يتباكين، أمام كل واحدة منهنَّ سندويتش فلافل.

الأمُّ تنظر صورة الأب على الجدار، وتولول:

نِضال: مَنْ افْتَرَى الأكاذيب على ابني؟ هذا العجل الطيب؟ حَكُّومي لا يعرف كيف يكره! حَكُّومي لا يعرف كيف يكذب! آه يا عِجْليَ الصغير أينَ أنت؟

الزبونة 5 تغني والنسوة يرددن وراءها:

دلل ول يا حَكَم يا بني دلل ول

عدوك عليل وساكن الچول

نام حَكَم ما يريد النوم دوم

غاب حَكَم ما يريد يغيب يوم

نام الولد ما يريد النوم كله

نام حَكَم نومات العوافي

نوم الغزيلة بالطرافي

نام حَكَم على ريش النعام​

تجهش الأُم بالبكاء، والنسوة يبكين ويمسحن الدموع. تقول الأُم:

نِضال: هذا الحاكم العادل ناكر الجميل، لولا زوجي المرحوم عضو محكمة التمييز تدخَّل شخصياً لَمَا خُفِّضَ حكمه إلى السجن المؤبَّد. ماذا فعلَ بنا المرحوم؟ هدَمَ المدينة بشفاعته السيئة!

الزبونة 5: الأخبار تأتينا صادقة، انتصر الحاكم العادل على كلِّ خصومه برَّاً، فقد عبرَ عسكره نهرَ الفرات وفرَّ أعداؤه مُخَلِّفين وراءهم أكداس الجثث. وجوَّاً تحت القُبَّة الخضراء أقنعَ رئيس مجلس النواب بطرد المعارضين، وعند الباب ألقى القبض عليهم وخبَّأهم تحت الأرض.

نِضال:
وأينَ هو الآن؟

الزبونة 5: يقول أبي، وهو أحدُ حُرَّاسه الشخصيين منذ أربعين سنة، وهو ينتقم من أعيان المدينة، لا أحد يعرفُ أين يبيتُ الحاكم العادل، ولا أين سيأكل غداءه، إنَّهُ مُحارِب لا ينام ولا يهدأ!

نِضال: أين ابني حَكَم، وليذهب الحاكم وأعداؤه جميعهم إلى الجحيم.

الزبونة 5: لكن أبنكِ حَكَم هو من بين أعدائه أيضاً.

نِضال: ابني العِجل الصغير، ما يعرف الحَوّ من اللَوّ، وما يعرف هِرّا من بِرّ. هَمُّهُ في بطنهِ، ما له وللسياسة؟

الزبونة 5: الأخبار تأتينا صادقة، زوجة الحاكم العادل خانته، فأقسمَ أنَّهُ في الثالثة لن يسامحها ولن يسامحَ أحداً غيرها. لكن خاله خِلاف صاحب تموين القلعة والسبعة قصور، سينقذه بطريقةٍ ما.

نِضال: وَمَنْ يعلم أينَ خاله المُحتال؟

يدخل درويش عجوز بأسمال شَحَّاذ، يتكئ على عكاز وعلى رقبته جعبة كبيرة، يقف على الباب ويقول:

درويش: حَكَم في سجن القلعة، مع الطلبة الذين تظاهروا يُنَدِّدون بإبادة الكتب.

نِضال: وهل بقيت لدينا كتب أو مكتبات أو مسرح أو صناعة أو زراعة؟ ليتني سمحتُ له بالتطوع وحمل السلاح! كُنَّا وجدنا مَنْ يدافع عنا؟

درويش: المتظاهرون خرجوا ضد النازيين الذين أحرقوا كتب مكتبة الجامعة في لوفين، ثانيةً بعدما أحرقوها أول مرة في الحرب العالمية الأولى.

نِضال: وما لَنا وللألمان وللمكتبات؟ ما هذا الجنون؟ يا خَفِيَّ الألطاف تَداركنا بلطفكَ الخفي...

درويش: مَنْ ظَنَّ انفكاك لطفه عن قدرهِ، فذلك لقصور نظره. وإنَّ ذرةً من أعمال القلوب خيرٌ من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، والصبر أسمى أعمال القلوب، فاصبري واحتسبي يا خالة!

يخرج الدرويش ويدخل السيد خِلاف شقيقُ أمِّ حَكم، وهو تاجرٌ مواد غذائية كبير، أنيق ورشيق وبيده سيجار كوبي فخم، يكره والد حكم، يشير إلى صورته المقلوبة:

خِلاف: المرحوم مات ولم تنته لابنِ أمِّ سهيل وهو يعرف تاريخها؟ وبعد ربع قرنٍ من رحيله، ما زالت بركات المرحوم تهلُّ علينا! لا رحمك الله أبا حكم! أنتَ سبب كلِّ هذا البلاء!

نِضال: أخي افعل شيئاً! أيُّ خالٍ أنتَ؟ أو اخرجْ من بيتي لا أراكَ إلا شَامِتاً بلسانك المسموم!

خِلاف: إذا استطاعَ أنْ يبقى على قيد الحياة! سيخرج بعد يومين، وعدني مسؤول رفيع!

نِضال: القرود وحدها هي التي استطاعت، مثلك!

خِلاف: البقاء ليس للأقوى، ليس للأذكى، بل للأكثر مرونة!

يتوجَّه للجمهور، يقف أمامهم يفتح ذراعيه:

خِلاف: هل ترونَ كيف تكرهني؟ تظنُّ أنني جئتُها شامتاً، هذا هو سوء الفهم، العالم كله يقوم على سوء الفهم، فلماذا ستفهمني.

يعود إلى شقيقته، التي كانت قد أخفت رأسها بين يديها.

خِلاف: في العصور الأكثر ظلاماً، يغيب كلُّ شيءٍ جميل عن الوعي والحضور. الظلام قادم. الغياب سوف يأتي قريباً. حَكَم الابن البار للظلام والغياب غير المكتملين، طالما قرر تعذيبنا بالانتظار. وأنتِ يا أختاه، نسيتِ كيف كان حَكَم الصبي يستمتع بلعبة الغياب عن الأبصار؟

نِضال: كيفَ تدعوني أختكَ، أنا لستُ أختك! يوم دفنا والد حَكَم، طردتكَ وتبرأتُ منك، وكانت المرة الثانية، وها أنا أعيدها، أنا لستُ أختك! أخرج من بيتي.

تنهض وتنتحي بالخالِ خِلاف جانباً. وتحدثه بصوتٍ مسموع:

الزبونة 5: الخالة نِضال تعتقد أنَّكَ قتلتَ أُمَّكَ.

نِضال: كذبة ترددها حتى صدقتها، ماتت أُمُّنا في حريق، وعمري سبع سنوات، الحريق بدأ في غرفتي وبسببي، واحترقتُ أنا أيضاً، نجوتُ وماتت هي متأثِّرة بجراحها!

يبتعد عن المرأة الخامسة، ويعود ليقف أمام سرير شقيقته، يجلس على الأرض ويخرج من جيبه ورقةً مطويَّة، يفتحها بهدوء ويلوح بها:

- أختاه لقد كتبت رسالةً رائعة، إلى فخامة الحاكم العادل سهيل بن أمِّ سهيل، شقيقته اليوم جارتي في حي الملايين. اسمعي نص الرسالة:

سعادة الحاكم العادل العادل

أكتب إليـك دون أدنـى درجات الطعن أو التدخل في نزاهتكم وعدالتكم، وما كنتُ لأجرؤَ على كتابة هذه الرسالة لولا تواضعكم. وأخاف أنْ أشرعَ بالكتابة خوفاً من أنْ تسيءَ فَهمي، وأخشى ألا تصلك رسالتي، شقيقتي الوحيدة نِضال أمُّ حَكم تبكي وتولول منذ غاب ابنها، وكما تعرف أنَّها قد تجاوزت السبعين، فكأنما رغبتها في رؤية ابنها، كآخر رغبة لمحكومٍ بالإعدام.

بأرواحنا نفديك يا سيدي الحاكم العادل، نحن لم نستطع إلى يومنا هذا، أنْ نردَّ بعضاً من أفضالكَ، بالروح بالدم نفديك يا سيدي القاضي، لو أفرجتَ عنه بكفالة، لعل الأُم نضال توافق على بيع البيت، وأنتَ تعرف بيتها ألف متر، وفي موقعٍ تجاري، وربما يتجاوز سعره المليونين دولار، يا سيدي لا تحرمني وتحرم المدينة من هذا الاستثمار، وسأظلُّ مديناً لك طوال عمري واستمر بالتضحية في سبيلك إلى ما لا نهاية! دمت لنا وللأهل وللمحلة وللمدينة والبلد، لو منحته ساعتين يزور أمَّه ويعود إلى السجن، وسأبقى بديلاً عنه، حتى يعود. ستنقذ شارعنا الرئيس من هذا البيت العتيق المتهدِّل.

ليلة أمس رأيتك سيدي الحاكم العادل تعيد افتتاح الجسر الرابع، رأيتك قبل قطع الشريط وسط التصفيقات والهتافات، تترك الحشد وتتوجه إلى فتاةٍ جميلة رشيقةٍ جاءت لتقدم الزهور، رأيتكَ كيف قبَّلتها، وكيف أجهشت الفتاة بالبكاء، فداعبت وجنتها وقلت لها: لا تبك يا ابنتي لستُ وحشاً، أنا بشر من لحمٍ ودم. ويشهدُ الله أنني بكيت وبكت زوجتي، واحتضنت التلفزيون أقبِّلُ صورتك سيدي، وأبكي، فهل يُعقلُ أنَّ هناك ما يثير البكاءَ فَرَحاً أكثر من صورتكَ البهيَّة! لن أطيل الكلام سيدي، لكني أتوسَّلُ إليك وأقبِّلُ حذاءك العسكري اللمَّاع.



[HEADING=2]المشهد الثالث[/HEADING]


الوقت الآن. الزمن اليوم.

المكان زنزانة سجن، الجدران ملطخة بذكريات كتبت باللون الأحمر. واجهة السِّجن مطلة على الشارع العام. غرفة السجن صف مدرسي، عديمة الأثاث شبه مظلمة، سبعة سجناء تلاميذ بالزيِّ الأحمر، يفترشون الأرض، يكتبون. يدخل الصف شرطيٌّ يلهث، وكأنَّه جاء ركضاً من مكان بعيد:

الشرطي: أينَ حَكم ابن السيدة نِضال؟ أين صديقه ربعي؟ أصدرَ الحاكم عفواً عنهما، على أنْ يدرسا شهراً في مدرسة الإصلاح النموذجية.

الشرطي يأخذ حكم بيد وربعي باليد الأخرى، من غرفة السجن إلى غرفة أخرى. حيث تجلس المرأة البدينة على كرسي خشبي هَزَّاز، قرب السبورة بمواجهة التلاميذ السبعة الجالسين على الأرض. على يمينها باب السجن مفتوح. تكتب على السبورة بالطبشور:

د

ا

ر

ا

ن

داران

د

و

ر

دور

نار

نور

تلتفت إلى تلاميذها الكبار:

المُعلِّمة: تجرأوا على الضحك أيُّها البكَّاؤون، لا أريد ابتسامة فقط، أريد ضحكاً بقهقهة عالية. ها هه ها هه ها هه. تضاحكوا وسيأتي الضحك، لن يهرب.

تتوجه إلى التلميذ رقم ثلاثة، وهو شابٌ ضخم الجثة، بدين جداً، بشاربين كثيفين وعضلات مفتولة:

المُعلِّمة: حَكَم حَكُّومي، تسخر مِنِّي لأنني بلا شارب مثلك ها؟ هيَّا اضحك، اضحك ابن نضال.

تصفعهُ بقوة مرتين. يضحك حَكم.



المُعلِّمة: هل تعرفون ما هو أقبح جزءٍ من الجسد؟

حَكَم: كرشي.

المُعلِّمة: لا.

حَكَم: أنفي.

المُعلِّمة: لا. فَكِّرْ جيداً، ما هو الجزء الذي إذا قَبُحَ، ضاعت الأجزاء الأخرى كلها؟

حَكَم: عيناي.

المُعلِّمة: عقلك، يا أحمق، عقلك.

ربعي: العقول قيودٌ إنْ وَثقتَ بها!

المُعلِّمة: اسكت ربعي لا أضربك! اضحك حَكَم لا أقتلك! لأنقذك سوف أضربك إلى أنْ تضحك.

حَكَم يضحك ويضحك، وهي تضحك والكل يضحكون، لكنها تنتبه إلى التلميذ رقم سبعة، وهو في العاشرة من عمره تقريبا، يضمُّ رأسه بين يديه، تناديه باسمِ حَكَم بصوتٍ يثير الضحك:

المُعلِّمة: جاء الطفلُ حَكَم إلى البرج المُظلِم، يا وَلْ يا حَكَمْ! ايش تريد؟

حَكَم الصغير: سيدتي أنا جائع جداً.

المُعلِّمة: نقيبة مُرضِعات الأطفال، ستملأ بطنكَ بالدودِ قريباً.

حَكَم الصغير: هل تسمحين لي بأنْ آكلَكِ؟

تقبض عليه من أذنه، تؤذيه وهو يبكي ويضحك. يُخرِجُ من جيبهِ، نصف سيجارة، ويشعلها ينفث دخانها في وجهِ المُعلِّمة.

حَكَم الصغير: أريدُ كَسرةَ خبز. أنا جائع.

المُعلِّمة: كنتَ أمس تريدُ شارباً، تريدُ أنْ تكبر؟ تعال أيُّها الأحمق لماذا لا تحلق شاربك؟

حَكَم: اليوم، اليوم وليس غداً سوف أحلقُ شاربي، سيدتي.

المُعلِّمة: بماذا نَفَعَكَ شاربكَ أيُّها الأحمق؟

حَكَم: سيدتي صدقيني لم أفعل شيئاً... لا لا تذكرت... قولي لي أنتِ ماذا تريديني أنْ أقول، وأنا مستعد، فأنا حقيقة لا أتذكر ماذا فعلت، أنا أسير بِلا قِبلة بلا بوصلة!

المُعلِّمة: رجاءً لا تجعلني أغضب!

حَكَم: رجاءً أتوسِّلُ إليك لا تجبرينني أنْ أتعرَّى، أنا أعترف.

المُعلِّمة: سأقطع أذنك وأعلقها على الجدار. اعترف قبل أنْ ينتهي الوقت وينتهي كلُّ شيء! منذ بداية الموسم الدراسي، وأنا أنتظرُ جواباً على سؤالٍ لم أطرحه؟

ربعي: كل معرفة غير ممكنة مسبقاً قبل التجربة، هي معرفة استعلائية. كيف يمكن صياغة أسئلة لموضوعات قبل وجودها؟ كيف يمكن للأفكار أنْ تكون موضوعات قابلة للتساؤل بخصوصها؟

المُعلِّمة: ها أنتَ تتبجَّح! عَرِّف الدازاين؟ ما هو؟

ربعي: الدازاين يتأرجح بين ما نريد وما نخفي، لاختلاف الإرادة عند كل لحظة، DASEIN كلمة ألمانيّة، DA: هناك. SEIN: يكون. هناك يكون.

في الخارج يُسمع صوت انفجار مرعب، تهتزُّ خشبة المسرح، وإطلاق رصاص، تقول المُعلِّمة وهي تبتسم:

المُعلِّمة: نحن في أمانٍ هنا، نحن في السجن وأسوارنا عالية. ربعي أيُّها الأحمق: أنت تحفظ كالببغاء، لكنك لا تفهم! وهذا التعريف لغةً، وسؤالي عنه اصطلاحاً؟

ربعي: من الصعوبة إعطاء كلمة الوجود تعريفاً، كذلك الدازاين. وأظنه كينونة الوجود الإنساني، إرادته المنفتحة على أنْ يكون مختلفاً عن الكائنات الأخرى، حيث ينجز كينونته بكيفية نزوعه إلى ما يريد أنْ يكون، الإنسان يصنع ذاته بذاته، ويجاوز بصنائعه حدود الواقع وينفتح على العالم ككل. هو الوجود المتجدد والمتغير باستمرار، وهو الأقرب على الصعيد الأنطيقي غير الأصيل والأبعد على الصعيد الأنطولوجي الأصيل كعلم للنزوع والتجاوز.

المُعلِّمة: استخدم الدازاين في مثال واقعي؟

ربعي: نيوتن الموجود المُتَّجِه إلى الوجود فهماً وتفاعلاً وكشفاً لحقيقته، بتحمله مسؤولية وجوده خارج ذاته. الدازاين هو مستقبل الإنسان وما سيكونه فيما بعد، بأنْ يملك الإنسان معنىً ذاتياً للوجود يتناسب مع حرية الاختيار! حين ننظر إلى حادثٍ ما، بعين الدازاين، نجد بوناً شاسعاً بين حقيقته وبين واقعه، وينحاز الدازاين بحيث لا يتناول مفردات الواقع كما هو، بل يحاول أنْ يُضخِّم ما يشتهيه ويقلِّص ما يشتهيه، والمجتمعات المتنوعة الدازاين، مؤهلة لأنْ يتحول التأهيل المتكامل إلى دازاين متقاتل بين الثنائيات، فينشئ وسطاً جيدا لاستلهام الاقتتال الداخلي الذي يهدد الحقيقة. وفيها مصيرنا، وعندما يتهدد مصيرنا، سيخرج المارد المعنوي من القمقم، ويهشم الزجاجة!

المُعلِّمة: يا عين يا ليل، يا ليل يا عين! وما دمتَ عبقريَّاً هكذا، ولماذا لم تكتشف لنا شيئاً كالعمِّ نيوتن أو الخال فانيا؟

ربعي: الشرط الإنساني لا ينكشف إلا إذا تجاوز الإنسان ذاته، ومن لا يتجاوزها فقد خسرها، وماذا ينفع المرء لو ربح العالم كله، وخسر ذاته؟ وكيف يتجاوز ذاته، وهو لم يتعرف عليها بعد؟ حالة القلق والتفكير المأزوم، التي تربط الإنسان وتشده إلى أصلهِ التراب. مناهجنا الدراسية ومشاغل حياتنا اليومية، لا تمنح أحدنا فرصة للتعرف على ذاته، ككائن أنطولوجي ينزع لتجاوز ذاته والانفتاح على العالم. نيوتن انشغلَ بالتفاحة والطبيعة، وأنا أحاول إعادة اكتشاف العالم من جديد، والعالم لا أقصد به الواقع، بل منذ جذره الأول أبونا آدم وإلى آخر إنسان، العالم بما يجب أنْ يكون، استناداً إلى ما قد كان، العالم من حيث هو الإنسان! البحث عن الحقيقة لا يحتاج مدرسة ولا مناهج دراسية. البحث عن الحقيقة يغذيه الاستعداد الفطري للإنسان. كهف أفلاطون، الثلاثة مجوس، رحلة سلمان الفارسي!

المُعلِّمة: ومن أين يبدأ البحث عن الحقيقة؟

ربعي: قبل ألف سنة من ميلاد سيدنا المسيح، كانت أثينا مركزاً حضارياً وتجارياً للعالم المحيط. ونُحِتَتْ في معبد دلفي ثلاث نصائح بعناية كبيرة: لا تُكْثِرْ. لا تُلزِم نفسك. اعرف نفسك. ولم يتوقف سقراط إلا عند النصيحة الأخيرة، والكثيرون توقفوا حتى وصلوا إلى: مَنْ عرف نفسهُ، عرفَ ربَّهُ، ولا يهلك من عَرَف ربَّهُ.

المُعلِّمة: نحمد الله أنَّنا نعيش في سجنٍ متمدن جداً، حتى أنَّ أحداً لم يكن بحاجة إلى تصريح ليحملَ سلاحاً، ورغم أنني لم أعد بحاجة إلى أنْ أحملَ مسدساً معي كلما خرجت من بيتي، لكنني لن أُخفي أنني أحتفظ ببندقية كلاشنكوف تحت اليد في بيتي، تحسباً للحالات الطارئة. قبل يومين ألقي القبض على خمسة شُبَّان يحاولون الهرب!

ربعي: يا أستاذتنا الفاضلة، الحياة تتأرجح بين قطبي التكرار والتشابه، مقابل الانفصال والاختلاف.

المُعلِّمة: اسمعني جيداً، أنتَ تثير أعصابي، بهذه اللغة التي تتحدث بها، افهمني جيداً. يجب أنْ تتوقف وإلا ستحاسب حِساباً عسيراً.

حَكَم الصغير ينهار باكياً، وبصوتٍ عالٍ. المعلمة انفجرت ضاحكة وهي تداعبه بحنانٍ قاسٍ، والشِّرَرُ يتطاير من عينيها، ترفعه لتطيُّره في الهواء، ينخلع قلبه رعباً. تدغدغه وتدحرجه على الأرض، لكن التلميذ لا يضحك، ويظلُّ ممدداً على الأرض بلا حركة! لا ضحك ولا بكاء.

المُعلِّمة تصرخ: حَرَس، أين أنتم؟

يدخل حارسان يرتديان بِزَّة رسمية، ينتظران أوامرها:

المُعلِّمة: ارمياه في البئر البعيد!

ثم تلتفت إلى التلاميذ:

المُعلِّمة: الويل لمن لا يضحك، سأطحنه بالأرض طحناً بقدميَّ هاتين.

تتوجه إلى التلميذ رقم خمسة، وهو رجلٌ عجوز بعكاز:

المُعلِّمة: قُمْ على السبورة، واكتب لنا دار داران دور.

تضحك وهي تضرب قدمها اليمنى بالأرض بقوة وصخب! يتعالى ضحك التلاميذ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى