مناف كاظم محسن - رحلة

أخيراً هبطتْ الطائرة بسلام، بعد صراع ٍعنيف مع المطبّات الجوية. لم أصدق نفسي وأنا أنزل من سلّم الطائرة. رأسي ثقيل وجسمي يؤلمني لقد اتخذت قراراً نهائياً أن لن أسافر بالطائرة مرة أخرى. وصلتُ إلى الفندق متعباً جداً. كانت الشركة التي أعمل مهندساً فيها قد حجزت لي مسبقاً. عندما أغلقتُ باب غرفتي تخلّصت من ملابسي وذهبتُ إلى الحمام. ملأت البانيو بالماء البارد وتمددت فيه محاولاً الاسترخاء ونسيان الخوف والقلق الذي سيطر عليّ منذ أن بدأت الطائرة في الانخفاض المفاجئ ثم الارتفاع للأعلى إلى أن هبطتْ أخيراً ذلك الهبوط الاضطراري. تذكرتُ وجه زوجتي وهي تودعني، الآن عرفتُ لماذا كان وجهها شاحباً كالأموات ربما توجست الخطر الذي كان ينتظرني. الصداع يضغط على رأسي وكل شيء من حولي غير ثابت يدور بسرعة يشتَّتَ كل الأفكار في ذهني المشوش. أخذت نفساً عميقاً ثم غطستُ رأسي في الماء فشعرتُ أنى أغرق في أعماق سحيقة. وجدت نفسي بين أمواج بحر غاضب. أصابني الرعب وحاولت أن أرفع جسمي ما استطعت إلى الأعلى لكن الأمواج كانت قوية وتسحبني للأسفل. تيقنت أنني لن أنجو من هيجان البحر. لم أعرف كم استغرقتُ من الوقت وأنا أقاوم الغرق. لكن الأمواج رمتني على الساحل. كنتُ منهكاً وكل أعضاء جسمي تؤلمني. نهضتُ بعد ساعة او ساعتين لا أدرى، كنت مذهولاً، أحاول أن أعرف ما هذا المكان الغريب وكيف وصلت اليه. أسئلة كثيرة محيرة لم أجد الإجابة عنها. ربما نقلت إلى عالم وزمان آخرين. أشعر كما لو أنني داخل في ضباب مألوف لكنه غامض للغاية. كانت السماء صافية بلا غيوم، لا شيء حولي غير امتداد البحر والرمال الرطبة. خفت أن أموت هنا ولا أحد يأتي لينقذني. مشيت تاركاً البحر خلفي والفراغ أمامي. بعد أن استغرقت بالمشي وقتاً ربما طويلاً وربما قصيراً كلحظة ضاعتْ في العدم. رأيتُ أمامي منزلاً كبيراً. طرقت الباب وانتظرت لكن لم أسمع أيّ صوت في الداخل. دفعت الباب بتوجس ودخلت، كان مهجوراً صدى اقدامي يرتفع كلما تقدمت للداخل. (ربما أنا الآن خيال لشخص ما، او ربما في حلم سينتهي بعد قليل وربما كل شيء يحدث لي الآن هو الحقيقة بعينها) كنت أقول لنفسي محاولاً أن أفهم بعض الذي يحدث معي لكن دون جدوى. رغم أن الصالة كانت واسعة الّا انها كانت محاطة بمرايا من كل الجهات، مرايا كبيرة يصل ارتفاعها حتى السقف العالي.
في تلك المرايا سر غريب اكتشفته عندما نظرتُ في المرآة الأولى، لم تعكس صورتي رأيت نفسي فيها طفلاً صغيراً جالساً بجانب منزلنا. أراقب أصحابي الراكضين مسرعين فرحين بيومهم الأول في المدرسة. بينما كنت أنا حزينا لأن إمّي رفضت أن أذهب للمدرسة خوفاً من تدافع الطلاب عند خروجهم فيسحقوني بأقدامهم. المرآة الثانية عكست صورة أخرى لي، كنت واقفاً أمام الطلاب فرحاً بعد أن أمرهم أستاذ مادة الرسم ان يصفقوا لي لأنني رسمت الواجب الذي طلبه منا بنفسي ولم يرسمه لي أبي او أحد اخوتي الكبار مثل ما فعل بقية طلاب الصف. وهكذا كلما وقفت أمام مرآة تعكس لي احدى ذكرياتي المنسية. حتى إنني رأيت كل مرحلة من مراحل حياتي الماضية كأنني أشاهد فلماً سينمائياً. مندهشاً تنقلت من مرآة الى أخرى يأخذني الحنين الى إمّي وأبي الى إخوتي وأصحابي الذين أمضيت معهم أحلى الأوقات وأصعبها. وقبل أن أصل الى الباب في نهاية الصالة كان وميض الذكريات قد أيقظ في اعماقي كل مشاعر الحب المنسية. تعثرت وسقطت ثم انفجرت بالبكاء. كنت وحيداً ضائعاً خائفاً من المجهول. لا أدرى كيف أخرج من هذه المتاهة.
ما أن فتحتُ الباب في آخر الصالة حتى استنشقت رائحة البحر والأشجار. وعندما خرجت من الصالة كانت الصدمة الكبرى. لم أصدق ما رأيت هناك في الحديقة الخلفية المطلة على الساحل. لقد رأيت نفسي بجميع الأعمار التي شاهدتها في المرايا ولكن هذه المرة كنا جميعنا جالسين تحت الأشجار ننظر لامتداد البحر كأننا ننتظر أحد ما يأتي الينا.

مناف كاظم محسن
العراق - بصرة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى