أسامة إسبر - لن نعثر على غابة كي نعوي فيها

يُضْجرني المحيط في هذه اللحظة،
تتشوّش الصور في ذهني وترفضُ أن تصير زبداً.
أشباحٌ من الماضي تطاردني على طرقي البحرية،
غير أنني أهزمها على مسرح الأمواج
حيث يقود الجنون الماء المالح إلى ذرواته.
لا تقلْ لي: قفا نبكِ أو اقرأْ
لا تنبس ببنت شفةٍ،
اصمتْ يا صوتاً يمكرُ في ذاكرتي.
أنا الآن على شاطئ المحيط
وعليّ أن أسمّي الأشياء بأسمائها:
وُلدنا ليس من أجل أي شيء محدّد
كي تُؤكل أعمارنا كأنها قطع بطيخ
وتُرمى قشورها في القبور.
قبلنا حياةً أضيق من خرم إبرةٍ
وعشنا في ظلّ الرجال الجوف
شاعرين بالحماسة في أيام خيطت لنا.
الخيّاط أخذ مقاساتنا
وفصّل أكفاناً عيّدنا فيها.
كل ما نفعله الآن هو أننا نبحث عن الطعام ككلاب وقطط برية
في الأحياء المهجورة.
أسلّم مع ابن عربي
أن الوجود في الآن
وأن ما كنتهُ يكونكَ وأنا أراقبُ
معارك تدور على حدود الحاويات،
والدم يلطخ قمامة لا يظفر بها أحد.
على الجدران صور موتى يحدقون بأعين جاحظة
وأسماء محفورة كالجراح في أوراق النعي.
في المنازل مرضى ممددون بلا أحشاء
وقصصٌ تصدأ على ألسنة الرواة.
صرخاتٌ لا يريد أحد أن يحدّد مصدرها
تواصل تحليقها بأجنحة الخفافيش
في كهوف انتقلنا إليها.
في الشوارع أرجلٌ مبتورةٌ تسير لوحدها
وأيدي مقطوعةٌ تلوّح في محطات
لا يسافر منها أحد.
على الخريطة رُمي نردان لُطّخا بدم فتيٍّ
ويدان تجمعان الأوراق.
رغم ذلك يُسْمعني هذا الأبله كلاماً عن الفردوس،
كما لو أنه يضمن دخولي إذا أصغيتُ إليه
فيما الجحيم يهدر الآن وهنا
ويغلي تحت الأقدام.
يهبّ الهواء، هذا صحيحٌ.
تُشْرق الشمس أيضاً،
لن أخالفكَ الرأي.
ولكن ماذا تضيئ تلك المخرّفةُ
بضوء يبدو كالعكاز على سكتها؟
حين أضع يديّ عليها لا أشعر بحرارتها
وتعجز أن تخترق قشرة ظلمتي،
لماذا تشرق إذاً،
ومن يرسلها كي يسلي الظلام؟
يفتح المرضى أبواب شقق لم تُهْجر بعد
وينظرون إلى ضوئها بريبة
فترتعد فرائصهم،
ويعودون مسرعين
كي يُفْرغوا مثاناتهم.
صار الفرح عملةً صعبةً
وغرقت الوجوهُ في تجاعيدها.
لم يعد هناك طفولة وشباب
يولدُ المرء كهلاً ويموت كهلاً.
لم نعد نسمع ضحكاً ساخراً.
العالم يحاول عبثاً أن يرتق فتقاً في دماغه.
الطيارون يُدرّبون للانتقال إلى كوكب آخر.
والرجال الآليون يستمنون علناً في الشوارع.
أسمع مواء قطط في الليل
وعواء كلاب ثم يعقبُ ذلك صمت يزرع براثنه في الظلام
ويطارد الأصوات الحية.
أسمعيني إيقاعاً يخرج من قلبكِ وأنت تجلسين معي.
أرى يديك على مفاتيح البيانو كأنهما على عتبة فجر لا يفتح بابه.
ارتجلي لحناً، أي شيء
أخرجيني من هذا الخندق
الذي رُمي فيه جسدي بين صناديق الذخائر.
من أين يأتينا هذا العجز؟
صرنا غرباء عن غيرنا وعن أنفسنا.
نَفينا الآخرين إلى حيث لا نستطيع الوصول إليهم
ونُفينا إلى حيث نعجز عن الوصول إلى أنفسنا
وقامرنا بأجسادنا.
سيأتي وقت نغادر فيه المدن
سيأتي وقت نحمل فيه خيمتنا على أكتافنا
ونسير على غير هدى.
ستتأقلم أجسادنا مع البراري
ولن نعثر على غابة كي نعوي فيها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى