أسامة إسبر - أتابع طريقي بلا بوصلة

انفجرت قنبلةُ الشمس فتطايرَ ما تبقّى من جثة الليل،
رأيتُ شظاياها تتناثرُ في ظلال تتراكض هاربة
كقطيع ثيران في أزقة المدينة.
أجنحة بلا ريش لطيور ترمقُ السماء بحسرةٍ،
نحلٌ نسي الطيران، أزهارٌ انطبقت بتلاتها،
نباتاتٌ تقلصت واختفت، ووجوه ولدت بلا أعين.
تصحرت الأرض، جفّت الينابيع واختفت الأشجار.
ووجدتُ نفسي أركضُ لاهثاً في مدينة تتصحّر
غيومٌ نصبت خيامها فوقها، فكّت أوتادها ورحلت.
في مواضع غادرتْها الأشجار رملٌ تلعبُ به الريح.
أتذكّر جسداً تعرّق قربي في الليل،
اختلطت رائحة عرقه برائحة عطره واستوطنت في الأغطية.
أتذكّر قلباً خفق داخل قلبي، وفماً نفث ناراً، وساقين التفّتا على جسدي بقوة الغابة،
ونسغاً صعد في البشرة.
بَلَلٌ تحت ساقيّ! يا لنعم الجسد، يا لطراوته في هذا القيظ!
آه ثمة هنا ما يُضحّى به على مذبح اللذة،
ثمة أطياف كانت تعيش لحظتها.
رنّ الصباح كأنه منبّه داخل رأسي.
حين نهضتُ خيل لي أنني لمحتُ شقوقاً في فراشي
فقلت لنفسي: ربما بدأ التصحّر في سريري وزحف إلى المدينة.
أتذكر أنني حلمتُ:
رأيتُ رأسي يتدحرج منفصلاً،
رأيت فخاخاً تُصْلى داخل ذهني للإيقاع بجسدي.
سمعتُ أصواتاً جُوِّعت كي تطاردني،
لها أنياب كالذئاب
أُفلتت من بوابات القواميس والكتب
خرج عواءٌ من حناجرها ملأ المدينة.
أمس كان هناك جسد بين ذراعيّ
عبرتُ معه حدوداً رُسمت في جسدي
لم تبق منه إلا الرائحة.
ذاكرتي تستيقظ،
تخرج منها أشكال لا ملامح لها. أسمع صرخات مألوفة.
هل سمعتها في حلمٍ؟
يطلع الفجر كنباتٍ يعرّش على نفسه،
يكبر في فراغ لا شيء حوله كي يتسلقه
ثم يتيبّس ويغور في الأرض.
أصواتُ أبواق السيارات تصنع نهراً من الدوي ّ
يشقّ مجراه في أعصابي فأنتفض من جديد،
أركض مبتعداً عن مصدر الصوت،
وأبحث عن بار في شارع جانبي.
جرعةٌ من البيرة ستمحو الصحراء في داخلي.
وصلتُ إلى أقرب بار وجلستُ كراعي بقر
يتحسّس مسدسيه متصنّعاً، يداعبهما كأنهما فخذا عاهرة.
أدرتُ وجهي ونظرتُ إلى الزبائن باستعلاء
كأني أبحث عن دريئة كي أثقبها بالرصاص
أو عن زجاجات فارغة أصفّها فوق حائط، أسدد عليها، وأراقبها وهي تتشظّى
كما يحدث في أفلام الغرب الأمريكي.
بجرعة واحدة أنهيتُ كأس بيرتي، وطلبتُ كأس بوربون،
ثم رأيت فخذيْ امرأة
فتذكرت زجاجة ويسكي فارغة وساخنة تحت الشرشف
وحرارة جسد غادر لتوه.
خرجتُ من الباب مرة أخرى،
فرأيتُ نفسي كجذع يتدحرج على الرمال أمام موجة.
لم أبدأ بفعل أيّ شيء بعد،
الشمسُ تصعد إلى أعلى،
كأنها تعمل في مقلعٍ للرخام.
أحاول أن أسترضي أشكالاً تخرج من ذاكرتي
أن أقنعها أن تعود كالحيوانات إلى أوكارها.
في الشوارع كان الناس يحملون حقائبهم وأطفالهم كي يهاجروا،
قالوا: سنخيّم قرب الحدود
إلى أن نعثر على ثغرة ندخل منها إلى بلد آخر.
لن نسلك طرق البحر كي لا تمسك بنا أرواح الغرقى
وتشدنا إلى القاع.
النهار ليس نهاري،
الليل لا يُجلسني كنديم،
يطردني عن طاولته
كأن قدماي تسيران
على دروب مجرات يتفسخ فيها الموتى.
أخضّ نفسي كجرة فتخرج كلماتي متكسرة،
تتبعثر فوق لساني كضباب أضيع فيه.
الرمل يفور من مسامي،
جلدي يتصحّر.
ما الذي يجري في جسدي؟
أسمع انهيارات في جوفي
انزلاقات في أعضائي.
زلزال يهزّني
وآخر يفتح شقوقاً في جسدي.
أضحكُ،
أقهقه بصوت لا يكفّ عن الارتفاع
وأنا أتابع طريقي بلا بوصلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى