محمد مزيد - قلعة الفجور

وجدنا أنفسنا ذات يوم نعيش في قلعة محاطة بسور كبير لايمكننا تسلقه، مغلقة الأبواب على مدار الساعة، لا نستطيع الخروج منها، الا عند إرتقاء مراتب الولاء للقوة التي تتحكم بها، ثمة في القلعة حجرات عديدة ، فيها نساء ورجال كان علينا أن نعيش فيها سنوات طويلة من دون أن نرى العالم، وكان من أسباب إدامة صبرنا في المطاولة بالعيش داخل القلعة بدون ملل، إنه يمكننا أن نختلط بالنساء حسب برامج معدة لهذا الغرض .. يخالجنا أحساس بغيض، أن أيامنا في القلعة لن تكون كما نتمنى، مغمورة بالسعادة والسرور وملامسة أجساد النساء دائما. تتوسط القلعة ساحة كبيرة فيها بئر وحيدة نشرب منه المياه، ونسبح فيه بأيام الحر ، لايجوز لنا التفكير بالخروج من ابوابها المغلقة التي حددتها لنا حكومة القلعة الا بأمر ملكي، اما للحصاد او الحراثة ، او حلب الأبقار، او أطعام الدجاج والخراف. يحرس القلعة من الخارج، مراقبون مارقون مدججون بالسلاح ، تم تأجيرهم من قلاع مجاورة لقلعتنا، أكثر بطشا من جنود القلعة، ليس لديهم قلوب يتفكرون بها، ولانعرف السبب الذي جعل قلعتنا تستعين بهؤلاء المراقبين الأجانب الذين يسيرّون أمروها ويحرسونها، ومن يحكمنا هم اناس غرباء ليس من طينتنا يمكثون في الطابق العلوي من القلعة، عبارة عن حاشية الملك، ليس لديهم معرفة بشؤون ادارة المملكة، بسبب نقص معلوماتهم في الادارة وفلسفة الحكم. كنا نجتمع في الساحة وعيوننا مصوبة الى شرفة الملك، وبمجرد أن تخبرنا المكبرات عبر صوت أنثوي بالغ اللطافة، بالوقوف أستعدادا أمام شرفة الملك، لنشاهد وجهه المتورم وبطنه المترهلة المشبعة بلحوم الغزلان وقد التمعت على وجنتيه أشراقات ماجنة، حتى تأخذنا الرهبة، وبالكاد نتنفس او نصدر اي صوت بحضوره ، شخصيا لم أكن بحاجة للبحث عن مكان في الطابور الاول ، حتى اتمعن بوجهه ، اذ كانت دائما هناك فتاة تحتجز لي المربع الفارغ بجانب مربع وقوفها، كان أشد ما يثيرني هو تكالب الرجال للوقوف بالطابور الاول خلف النساء الجميلات ، بينما أجد مكانا محجوزا لي مع إبتسامة فاتنة!! لا أعرف حقيقة، سبب نزوع الرجال للوقوف خلف النساء، فهل يمكنهم مثلا ، خلال كلمة الملك، التي غالبا ما تستغرق ساعة أن يستميلوا النساء ؟ لا أعرف كيف يمكن أن تتلاءم الاجواء الشاعرية لإستمالة النساء، مع صوت الملك القبيح، وهو الصوت الاكثر رعبا في العالم ؟ ولما تنتهي الكلمة بتوجيهاته الغريبة المضحكة، تكون قد حانت ساعة غروب الشمس، ليعم السرور على كل من في الساحة، ثم ندلف الى غرفنا ، كل رجل لديه غرفة مرقمة، وبجانبها غرفة بينهما كوة صغيرة يمكنه من خلالها التحدث مع جاره او مغازلة جارته للاتفاق على موعد لقضاء الليل معها، بدون عقود زواج او اتفاق شرعي او رسمي، نمارس المتع حالنا حال الكلاب والخنازير التي تُرعى خارج القلعة، كل امرأة او رجل لديه غرفة فيها سرير واحد وكرسي واحد ومنضدة للطعام، أضافة الى حمام وتلفاز يبث خطب الملك بين ساعة وآخرى ، كما يبث أفلاما عن نشاط حزب القلعة يستعرض أنجازاتها، كنا لاننام بعد العشاء الا بعد مشاهدة فيلم السهرة، وهو ليس فيلما بالمعنى الحرفي للكلمة ، بل مجموعة من اللقطات تم منتجتها، لانفهم منها اية شيء، لا نفهم ما هي قصة أو ثيمة الفيلم ، تعمية كاملة للذهن وأفراغه من التفكير الحر، وقبل المنام يسمح لنا بالنزول الى الساحة، نتجول فرادى او مثنى، يحق لرجلين او امرأتين، او رجلا وامرأة فقط ، اما إذا أجتمع ثلاثة، فذلك أمر يخالف قوانين القلعة، ويتم معاقبتهم بالزحف على ركبهم عراة في الساحة تحت الشمس في اليوم التالي. وبمرور الوقت، بدأنا نخشى هذه التجوال بسبب أن كل الحوارات التي نجريها مع بعضنا البعض تواجهنا بها السلطات وتعتقل منا بعضنا، خصوصا إذا ما جرى حوار معمق بين أثنين حول أخطاء الحكومة او طبيعة حياة الملك وحاشيته، وإذا كان الحوار تافها ، تنصحنا الجهات الامنية من خلال مراقبين، وجوههم خشبية، بعدم تكرار أقوالنا الناقدة لمنهج سلطة القلعة ، في كل أيام الاسبوع يتم إقامة الندوات لشرح أبعاد الفكر الجبار للملك الملهم، ندوات عقيمة تشعرنا بالملل والتثاؤب، حتى حصلت ذات يوم مفاجأة، لم نكن نتوقعها، إذ قامت فتاة ذات جسد ناري لتقول للمحاضر " لقد سمعنا ما تقوله في الأسبوع الماضي " ، أبتسم المحاضر وسألها عن رقم غرفتها ، وقطعنا انفاسنا، ونحن نراقب ماذا سيحصل للفتاة، وعند وقت المنام، راقبنا بشكل خفي غرفة الفتاة الجريئة مضاءة، ولما أنتصف الليل ، طرق جاري الباب وقال" أنظر ماذا يفعلون بالفتاة في الساحة" خرجت من غرفتي، ورأيت سكان القلعة يراقبون من غرفهم ما يجري في الساحة، حيث تمت تعرية الفتاة ذات الجسد الناري، وجعلها تسير على الأربع بين جداري القلعة يمينا وشمالا، وفي جيدها وضع حبل يجرها حارس، لمنعها من التوقف للاستراحة. وبعد ساعتين من التعذيب ، فك عنها القيد وتم سحبها الى غرفة في الطابق العلوي، كنا نشاهد الملك يراقب المشهد، وبين أصابعه السيجار متلذذا، وبعدها لم نعلم ماذا حصل هناك. أنتظرنا الصباح بشغف لمعرفة مصير الفتاة ، تجمهرنا في الساحة بعد الفطور الصباحي، وعيوننا تتساءل فيما بيننا عن الفتاة حبيسة الطابق العلوي ، همس جاري " يمكن أغتصبوها " لم أجبه، خوفا من أجهزة التنصت المزروعة في كل مكان، قال الآخر " أعتقد رموها الى كلابهم الشرسة عبر سور القلعة " فلم أجب أيضا ، تقف امرأة خلفي، قالت " أعتقد ربطوها الى السرير طوال الليل"، فلم أجبها ، أنتهت كلمة الصباح المزعجة التي ألقاها الملك، كان يبدو عليه الإنشراح والسرور وهو يرتدي ثوبا أبيض قصيرا يغطي عورته فقط، ولما جلس ، شاهدناه لايرتدي اللباس الداخلي، فاستنتجنا، بأنه في حالة شبق مستمر مع الفتاة ، حزنا كثيرا لعدم ظهورها لحد الان، وشعرنا أن بقاءنا في القلعة، صار مبعثا لتعاستنا بسبب التشديد والقسوة على تفريغ رؤوسنا من الاحلام، وحقنها بالترهات والاكاذيب، دلفنا الى غرفنا بخطوات متعثرة والخوف يأكل عقولنا وقلوبنا ، شاهدني جاري في الغرفة ( 39) ولحق بي، ثم جلس على سريري ، قال كلمات لم أفهم معناها، ثم مضى. عمت حالة من الوجوم والإكفهرار ، تتلبسنا مشاعر الخوف، وفي الليل بعد العشاء، في ساحة القلعة، أخبرتنا أم الفتاة ذات الجسد الناري " أن الوضع يجب الا يستمر هكذا " حك البعض شعر رأسه ثم ولى هاربا، والبعض الآخر وقبل أن تكمل عبارتها، ركض باتجاه غرفته ، كان الخوف يرجفنا، وبإعتقادي أننا ما دمنا نخاف فلن نتحرر من سلطة القلعة، هكذا همست باذن جاري ( 39 ) فهرب مني ولاذ الى زاوية لم أعد أراه فيها ، النساء كن خائفات يمشين بخطوات بطيئة صامتات، راقبت فتاة بالثلاثين تمشي حافية، رفعت ثوبها الاصفر ووضعته في لباسها الداخلي، أحسست إنها تريد قول أشياء من خلال مشيتها المثيرة، شقراء، بيضاء الوجه، جسدها يشبه فتاة الجسد الناري، وجهها لايليق به الوجوم، سرتُ بجانبها، فالتفتت اليّ ولم تهتم بي، تمشي بغير هدف نحو البئر وسط القلعة، شعرت بالحرج لعدم قدرتي على الاقتراب كثيرا منها ، لا أعرف كيف صار جاري في غرفة ( 37 ) خلفي، ثم أخبرني هامسا" إنها صديقة المحتجزة، لاتقرب منها"، فأبتعدتُ عنها، ولكنها بقيت تحت مراقبتي. وفي اليوم التالي ، كانت الشمس ساطعة ، تعرقت أجسادنا ، تجذبنا مياه البئر للسباحة ، البئر عبارة عن مساحة تشبه البيضة بطول عشرة أمتار وعرض خمسة يمكن دخول عشرين شخصا فيه، لمحت الفتاة المثيرة صديقة المحتجزة، تحت أبطيها يسيل العرق، حدثني أبليسي لمحاذاتها، فأقتربتُ، شممتُ رائحة جسدها ، ليس هناك اعذب منه ، ياللهول ، هل يمكن للجسد أن يفرز كل هذه الرائحة اذا تعرق ؟ رائحة زكية تثير الشهوة، تعلقت بها أكثر، سألت جاري الذي يسير خلفي ، من ينام معها ؟ فاخبرني رقم ( 14 ) فأغتبطته، كنت بأنتظار الليل لاعرف من يكون رقم ( 14 )، لكن النهار كان طويلا ممللا ، ، خيمت فيه مشاعر الوجوم علينا ، أنتصف النهار وسرنا الى غرفنا بانتظار وجبة الغداء ، ننزعج من صافرة الدعوة للطعام، لأنها تقلق راحتنا ، أخذت صحني المخصص، وأنطلقت بحثا عن الفتاة ذات العطر المثير، ولما رأيتها ، كانت قد أستبدلت ثوبها الاصفر الى الابيض، يلتصق على جسدها، أحد المراقبين وجدته يخزرني لمتابعتي خطوات الفتاة ، وجه خشبي لا حياة فيه ، فلم أبال به، وقفت في طابور توزيع الطعام خلفها، وزاد العرق من لصق ثوبها على جسدها ، أكتشفت إنها لا ترتدي تحته شيئا، همست بإذنها ، لاول مرة أرى تسريحة شعر تشبه الموسيقى، فإلتفتت بإبتسامة ساحرة كادت تشلني، أقترب مني ذو الوجه الخشبي، وبيده العصا الغليظة المكهربة ، كان يتلاعب بها ملوحا، فعرفت ما ينبغي الحذر منه. أخذت طعامي وسرت وحيدا لا أتبع أحدا باتجاه غرفتي، كنت أصغي الى صوت الهسهسة في جسدي ، ثمة خرير مياه يتساقط من شلالات قريبة من جدار القلعة، وهناك زقزقة عصافير تعبر فضاء الساحة، غمرتني بموسيقى ناعمة تعزف لحنها السماوي ، كنت أراقب مشية ذات الرائحة، فأرى بعين خيالي أن الفراشات تتبعها، ولكنني حين ألتفت الى الوراء، وجدت ذا الوجه الخشبي، مازال يترصدني من دون كل سكان القلعة، ليس هناك قوانين صارمة تمنع الإقتراب من النساء، ولكن هذا المراقب يبدو انه شديد التعلق بهذه الفاتنة، وكان لابد من مواجهته بالمزيد من اللامبالاة، لإذلاله ، ذلك لأننا نعلم أن المراقبين لايحق لهم النوم مع نساء القلعة، وبالتالي فأن فرصتي للفوز بها كبيرة، تتبعتها وهي تسير الى غرفتها رقم ( 15 ) اذن هي جارة الشخص الذي يسكن غرفة ( 14 ) ويجب عندئذ أن أرى ساكن هذه الغرفة، وعندما دخلت الفتاة الى غرفتها، عدت الى باب غرفة ( 14) فوجدته مفتوحا ، فكرت بأفتعال طلب حاجة، أطرقت الباب فلم أجد جارها ، بحثت عنه في انحاء الغرفة، بعد ثوان، وقف خلفي شاب عريض الصدر " تفضل ألديك حاجة عندي " فأرتبكت " نعم أريد قداحة إذا سمحت" ، أبتسم ثم قال لي " ألست أنت الفيلسوف ؟ " دخل الغرفة وبسرعة ناولني القداحة وقال انه لايدخن لكنه يحتفظ بها للاصدقاء، نظرت الى الكوة الصغيرة في الجدار الفاصل بين غرفته والغرفة ( 15 ) ، أشرت بحنكي الى الكوة وقلت غامزا " يحتاجها الاصدقاء " ففهم قصدي وخزرني . في تلك الاثناء رأيت المراقب ذا الوجه الخشبي يقف عند عتبة الباب، ينظر إليّ بحقد، لوح بعصاه وأنصرف، فعرفت إنه علم بماذا أفكر، ألتفت الى الشاب عريض الصدر وسألته "كيف تجري الامور هنا ؟ فتح قليلا من النافذة بينه وبين غرفة 14 وقال أنظر بنفسك ؟ كانت فتاة العطر ترتب سريرها ، ترتدي الثوب الأبيض نفسه، دخل خيالي الى غرفتها، نمت على سريرها، جاءت الفاتنة ومسحت العرق عن جبهتي وأطفأت بأصابعها الباردة النار في جسدي، وضعت يدها على كتفي، كانت في الحقيقة يد الشاب قد وضعها على كتفي وقال " الى هنا كفى تلصص " فإلتفت إليه مذعوراً ، حنقت عليه لأنه أيقظني من الحلم، أخذت القداحة وشكرته وغادرت الغرفة .
في صباح اليوم التالي ، أجتمعنا في الساحة بإنتظار خروج الملك من غرفته ذات الشرفة المطلة على الساحة ، طال أنتظارنا طويلا ، كنت أبحث عن ذات العطر ، صدرت بيننا همهمات، فليس من عادة الملك أن يتأخر ، لكن المفاجأة أن فتاة الجسد الناري التي عوقبت بسبب سؤالها الجرئ، هي التي خرجت من غرفة الملك، ترتدي ثياب الملكة، وعلى رأسها التاج الذهبي خماسي النجمات، قالت بصوت رخيم مثير " أنتقل الملك الى دار الخلد أثر نوبة سعال حادة، توقف على إثرها قلبه، ومنذ هذه اللحظة، ستصبح أدارة المملكة من قبل مجلس حكم سأختاره أنا بنفسي، وليكن في أذهانكم ، أن اختبارا سيجري على كل من يتقدم للترشح ليكون عضوا في المجلس، وسننزل قواعد الأختبار، في منشور، قريبا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى