إبراهيم أصلان ـ أبيض و أسود

كانت تجلس علي الفراش الكبير مائلة في الحجرة شبه المعتمة بجسدها الممتلئ وشعرها الأبيض المنكوش، عندما ارتفع صوت جرس التليفون في الفيلم المعروض بالتليفزيون في الصالة. وهي سمعت هذا الجرس وقالت:
حد يرد علي التليفون يا ولاد
ومالت علي جانبها الأيمن، ولم تقم بعد ذلك أبداً.
وفي الصالة، كان هو يجلس بجسده الضئيل في جلبابه النظيف يتفرج علي الفيلم الأبيض والأسود المعروض في التليفزيون، وعندما ضرب جرس التليفون وسمعها تقول: "حد يرد علي التليفون يا ولاد".
حينئذ رأي عباس فارس يقوم كمن يلبي نداءها، ويضبط الطربوش علي دماغه ويرد علي التليفون الموجود علي المكتب البعيد، وحينئذ ضحك واتجه إلي الحجرة لكي يخبرها أن عباس فارس سمع كلامها ورد علي التليفون، ولما وقف في فتحة الباب وجدها في العتمة الخفيفة وهي هكذا، وراح يجري علي سلالم البيت بلحيته النابتة البيضاء وينادي علي الجيران. وظل في الخارج يطلع السلالم وينزل السلالم، ويراهم وهم يدخلون الشقة ويراهم وهم يخرجون من الشقة والأولاد في أعقابهم، وعندما نزلوا بها ملفوفة في القماش النظيف شم رائحة الكولونيا والصابون، وراقبهم من بير السلم وهم يضعونها في الصندوق ثم يغطونه، ولما تحركوا إلي الخارج نزل وراءهم ووقف في مدخل البيت وتابعهم وهم يحملونها ويبتعدون، والأولاد الصغار يثيرون العفار في صمت، وجاءت سعاد التومرجية البيضاء ووقفت أمامه مباشرة بقامتها الكبيرة ونظرت في عينيه بعينها القريبة المفتوحة عن آخرها، وحاجبها الرفيع المقوس، ثم رفعت إصبعها الأبيض وأشارت جانباً إلي الجنازة التي تبتعد، وهو أجهش فجأة وانطلق يجري لاهثاً بالشبشب والجلباب حتي لحقهم ومشي بين الناس. أما في المساء، فقد وقف في مدخل السرادق وإلي جواره ابنه الكبير وأزواج بناته، وهم لم يلبثوا أن طلبوا منه أن يجلس علي الكرسي لأنه تعب من الوقفة طيلة النهار، وعندما جلس حكي لمن يجاوره أنها كانت تطلب منه أن يرد علي التليفون، ومع مرور الوقت راحت ذاكرته تعمل وتضيف للحكاية بعض التفاصيل الحقيقية حول ما حدث ويرويها لكل من يجلس إلي جواره أو يربت علي كتفه معزياً، وعندما جاء أهل البلد وملأوا الشقة جلس في صدر الصالة ولمّ ساقيه وقال: "أنا كنت قاعد في الصالة زي ما أنا قاعد كده، والفيلم القديم كان شغال في التليفزيون، وبعدين جرس التليفون اللي في الفيلم ضرب، هي افتكرت إن التليفون إللي علي الكرسي ده هو اللي ضرب.
قامت قالت وهي قاعدة في الأقوضة: حد يرد علي التليفون يا أولاد، في اللحظة دي، عباس فارس قام لبس الطربوش وراح رد علي التليفون، كأنه سمعها وهي بتنادي.
أنا بقي قمت من مكاني ودخلت أقول لها، إن عباس فارس سمعها ورد علي التليفون، من باب الهزار يعني، لقيت السر الإلهي طلع».
ومسح وجهه بكفه وقال: مفيش، زي ما بكلمك كده، يمكن دقيقة واحدة، وجايز تكون أقل. وهو بعد ما ينتهي من الحكاية، كان يتجه بوجهه إلي أقرب الجالسين، يتطلع إليه بعينيه الدامعتين، ويبتسم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى