عواطف أحمد البتانوني - العَمَّةُ بِخاطِرْها بِنْتِ الْمَيت

تفتحت عيونُ "صفية" فى قريتها الصَّغيرة على البيوتِ المتلاصقة المبنية بالطوب اللبن.. ذات الأبواب الخشبية الكبيرة التى تصر صريرا عند فتحها وقفلها التى تظل مفتوحة فى أمان طيلة النهار حتى يعود الرجال من الحقول ساعة المغارب.. وتلتف الأسرة حول طبلية العشاء.
كانت فى طفولتها المبكرة تخطف اللقمةَ وقطعةَ الجبن أو ما تيسر من "الغموس" وتهربُ مع رفيقاتها إلى الطرقات المتربة للعب.. فلا صبر للصغار القرويين على البقاء داخل الجدران. كانوا عادة ينطلقون حفاة الأقدام لا تستر أجسادهم الفتية الصغيرة غير جلباب على اللَّحم.. ولم يكن الأولاد يمارسون من الألعاب غير ركوب أعواد الذرة وكأنها حمار.. أما البنات فيلعبن ألعاباً خاصة بالإناث أو يشتركن مع الذكور فى لعبة الأستغماية. يربط أحدهم عينيه بمنديل، ويظل ينادى "خلاويص"؟، فيرد باقى الصغار.. لسة.. حتى يعثر على أحد منهم فيحل محله. أما متعتهم الكبرى، فقد كانت معاكسة خلق الله ، فهى الشيء المُسلى جدا بالنسبة للأطفال فى ذلك الزمان مهما نالوا عليها من "عُلَق".
كانت "زينب" ابنة عم "صفية" فى شقاوة الصِّبيان.. فطالما تسللت إلى إحدى الدور لسرقة البيض من تحت الإوزة أو الدجاجة وقد أوشكتْ على الفقس.. ثم تجرى فرحة إلى الدكان، يتبعها كل الصغار.. فإذا لمحتهم صاحبة الدار، تسرع وراءهم، وهى تدعو عليهم بأقسى الأدعية. أما "حسن " و"عبد العزيز" أولاد خالها فكانا أكثر جرأة.. إنهما يتابعان الأفراح.. لا يستطيعان مقاومة رائحة الطعام.. فإذا وجدوا دارا أهلها منشغلون في فرح أحد الأبناء، يتسللان بجسديهما النحيلين كالسراب إلى داخل الفناء.. يسرقان اللحم من فوق الكانون حتى لو كان نصف ناضج.. ويملآن حجرَهما بالأُرز الساخن.. ولا يتورعان عن قلب باقى الطعام على الأرض.. فإذا رأتهم "صفية" ورفيقاتها تبعنهما إلى داخل حقول الأذرة..وهناك يتقاسمون الطعام، ويأكلون بنهم ،غير مبالين بالتراب الذى غالبا ما يكون قد اختلط بالطعام.. ولا يلبث الصراخ أن يعلو من بيت العريس أو العروس.. ويتبادل الجيران الاتهامات والسباب، فإذا وشت بالأولاد الجلاليب الغارقة فى الدهن والمرق، نالوا نصيبا وافرا من الضرب على ما تسببوا فيه لأهلهم من فضائح قد تعقبها قطيعة لعدة أشهر. أما جارة "صفية"، فكانت تُدْعى "سَعْدِية الشقية".. فقد كانت أكثرهم جرأة وشقاوةً. كانت هوايتها التريض فى غبش المغارب وراء أحد الأبواب وفى يدها عصا طويلة.. حتى إذا مرت إحدى النساء تحمل إناء اللبن عائدة به إلى دارها.. وضعت العصا فى طريقها فتنقلب المرأه على وجهها ويضيع رزق العيال فى شقوق الأرض.. فتلطم المسكينة خدودها.. لأنها عادة تجمع اللبن لعدة أيام تصنع منه الجبن والزبد ثم تذهب به إلى السوق لتبيع وتشترى كل ما تحتاجه الدار. كان هذا قليل من كثير.. لم تكن تلك النفوس البريئة تعرف الشر ، لكنهم كما يبدو كانوا لا يقدرون عواقب الأمور.
لم تكن تحظى القرى بأى نوع من الإهتمام.. فهى تعيش حياة الفطرة والتقشف والإنفصال عن المدنية.. ولم تكن الطرقات تحظى بأى نوع من الإضاءة.. إلا إذا أضاء دروبها القمر. أمام البيوت فكانت تضاء بمصابيح الجاز الضعيفة وكانت الحياة لا تخرج عن العمل اليدوى الشاق للجميع يتخلله فى مجملها اللعب والتسامر ثم النوم مبكرا.
فناء الدار الواسع تتوسطه "طلمبة" الماء التى هى سبيل لا يُصَدُّ عنه أحد.. تصنع تحتها بركة من الماء يسبح فيها الإوز والبط مع أفراخها الخضراء المكحولة العيون اللطيفة الحركة. والدجاجات تنطلق فى جنبات المكان تنقر الأرض. بحثا عن الغذاء. فإذا سمعت "صفية" صوتَ ملاحاة الدجاجة تعلن عن قدوم بيضة طازجة، تتربص بالقرب منها لتنال البيضة فى غفلة من أمها.. وكثيرا ما كانت الإوزه تجرى خلفها تعضها عضة مؤلمة وكأنها تدافع عن صديقتها الدجاجة. أما النخلات الباسقات فى الحديقة المقابلة للبيت، فكانت تلقى ببعض الثمار قبل أن تنضج.. فتلتقطه "صفية" وأصدقاؤها يأكلونه بنهم شديد..
وكانت المتعة الكبرى يوم تذهب الأمهات إلى الترعة لغسل الملابس والأوانى.. فيتبعهم الأولاد للعب بالطين والاستحمام وسط الصياح وثرثرة الأمهات. فإذا كانت ليالى القمر.. ينطلق الجميع إلى الدروب والحقول للعب وشى الذرة وتبادل الزيارات والسهر إلى وقت متأخر أمام الحوانيات وفوق الأسطح. أما أعجب هذه الثوابت التى لم تكن تتغير بتغير الأيام والفصول.. فهى "العمة بخاطرها". لم تكن بوابة العمَّة "بخاطرها" التي تتوسط الشارع الذي تسكنه "صفية"، تغلق قط إلا فى المساء عندما تأوى المرأة إلى فراشها.. لم يكن أحد يرى عتبة دارها إلا وهى قابعة عليها بجلبابها الأسود.. ومنديلها المحبوك على رأسها يطل من تحته شعرها الأحمر المهوش الذى يشبه شرابة الذرة عند نضجها، وكانت طرحتها تتدلى على التراب وهى تجلس متربعة بإحدى ركبتيها.. وترفع الأخرى تستند عليها بكوعها وتمسك باليد الأخرى جريدة من سعف النخيل تهش بها على دارها وطيورها وتذود الصغار عن العبث بمحتويات الدار بكل يقظة.
كانت تميل إلى القصر، محنية الظهر، كليلة العينين.. لكنها كانت عالية الصوت سليطة اللسان.. وكان الكل يعرف أنها تكره الأطفال.. وتصب كل حنقها على البنات خاصة! لم يكن أحد يعرف لها أقارب، أو رأى لها زوجاًأو أولاداً! تفتحت عيون "صفية" ورفقائها على الدنيا فى سنواتهم الأولى فوجودها هكذا.. وكبروا وتفرقت بهم السبل وتركوها كما هى.. وكأنها الأهرامُ أو أبو الهول! لم يسلم أحد من الصغار.. والكبار أحيانا من لدغات لسانها ولسعات عصاها. كانت لها طريقة فريدة فى الشتائم ومرادفاتها، لم يسمع بها أحد من قبل حتى أن هذا القاموس اللغوى الفريد قد تعلمته الأمهات تلقائيا وأصبحن يستعملنه خاصة مع بناتهن ولم يعد أحد يقف أمام هذه الألفاظ متعجبا. ولو اعتبرنا الشتائم المصرية فن من فنون الكلام.. لأخذت "بخاطرها" جائزةَ التفوق .. كانت إذا اقتربَ أحد من دارها وتلكأ قليلا لينظر داخل الدار فى فضول تفاجئه لقولها : امشِ.. مشيت عليك بطن؟ ، وإذا جذبت طفلة لتجلسها عنوة بجوارها حتى تتجنب شقاوتها ، قالت لها: اقعدي.. قعدتِ مكسحة, أي كسيحة. فاذا ارتفع صوت أحد الأولاد صارخا وهو يلعب، دعت عليه قائلة: زعقوا عليك يا بِعيد ساعة وانفضت. فإذا تجرأ أحد الأولاد وجلس قريبا منها معاكسا، لسعته بالعصى قائلة: قُووم قامت قيامتك. حتى شربة الماء إذا طلبها أحد المارة منها منعته قائلة: شربت المر يا بعيد.. روح اشرب من البحر.أما الشحاذون، فقد نالوا النصيب الوافر من لسانها، فكثيراً ما رقد أحدهم يستظل من قيظ الصيف بجوار حائطها ، فتضربه قائلة: نايم فى عزبة أبوك! نامت عليك حيطة.

01.jpg

هكذا كانت العمه "بخاطرها".. حتى باتت وأصبحت مادة للتندر والسخرية بين الجميع.. وذات يوم طال لسانها السليط "صفية" بلا ذنب، وقد صارت شابة ذات حياء وأدب ونسيت شقاوة الطفولة.. مرت ببيت العمة بخاطرهاذات مساء وقالت فى نفسها: "ذى برضُه فى سن جدتى.. من الذوق أن أحييها، فلما حيتها تحية طيبة، إذا بالمرأة ترد مستنكرة وهى تتفرسها بعيونها الكليلة: إهيه!! من إمتى التربية دى يا بِتْ! امشى فى حالك ..فاسرعت "صفية" باكيةً ودخلتْ على أمها الدار وحكت لها ما حصل.. قالت الأم: "دى وليه شر مالك ومالها؟ روحى احكى لجدتك".
ذهبت صفية إلى جدتها وحكت لها، وقالت وهى ثائرة هى دى بنى آدم ولا شيطان ياستى؟! طيبت جدتُها خاطرها وأجلستها بجوارها وقالت لها: "حقول لك حكايتها يابنتى.. يمكن تعذريها وتسامحيها.. ذى وليه غلبانة قليلة البخت حتى لسانها من قلة بختها" : عرفت "صفية" أن بيت العمة "بخاطرها" كان منذ زمن مملوكاً لرجل من أهل القرية يدعى "جابر". وكانت زوجته تدعى "قطيفة".. كان "جابر" قد ورِث من والديه هذا البيت الفسيح وعدة أفدنه كانت تعد فى ذلك الوقت ثروة تجعله من الأعيان وتدر عليه دخلا طيبا. مضت سنوات ولم يرزق بالذرية.. فانطلق جابر إلى الأسواق يصاحب (الغوازي) وأهل السوء.. وينفق بلا حساب على المخدرات والملذات.. حتى لم يبق له إلا بضعة قراريط تقيم أوده وزوجته. وأصيب فجأة "بالفالج".. وأصبح عاجزا يلازم بيته وكانت حالته تسوء يوما بعد يوم.. حتى أصبح كل العبء تتحمله "قطيفة".. تخدم بيتها.. وتعتنى بزوجها.. وتزرع الأرض..عاشت المسكينة سنوات على هذه الحال.. وقد أغلقت بيتها عليها وعلى زوجها.. هربا من شماتة الناس وألسنتهم التى لا ترحم.
وفى أحد أيام الصيف المعتدلة وجد الناس جابراً يجلس على باب الدار باسم الوجه يحيي الجيرانَ ويحادث المارة.. فإذا تجاوزوه.. خبطوا كفا بكف قائلين: "سبحان الله.. يحى العظام وهى رميم! جابر صحى يا ولاد!"
عندما أوى الزوجان إلى فراشهما تلك الليلة.. قال جابر لزوجته.. "أنا عاوزك يا قطيفة". وكان كل شئ قد انقطع بينهما منذ مرضه. وعند أول خيط من خيوط النور.. سمع الناس قطيفة تصرخ بأعلى صوتها: "ياسبعى.. يا حملى.. جابر مات!" تأكد الجميع أنها كانت صحوة الموت. ولكنه ياللعجب!! كان قد ترك بصمته فى الحياة قبل أن يرحل. ولم تستطع "قطيفة" أن تخفىَ الأمر عن أختها وأمها.. فانتشر الخبر كالنار فى الهشيم.. وشاءت قدرة الله أن تحمل المرأة فى تلك الليلة!!
جاءت ساعة الولادة.. وأحاطت النساء بها وحضرت القابلة.. وانقضت سحابة النهار وجزء من الليل فى معاناة شديدة.. حتى نزل الجنين بعد ذلك.. بنت زرقاء لا حراك فيها وراحت محاولات القابلة لتجعلها تبكى أو تتنفس ولكن بدون جدوى، فنظرت إلى أم "قطيفة" وهزت رأسها فى أسف.. قالت الأم معلش! مالناش نصيب فيها.. (بخاطرها). ضعيها فى المِشنة التى بجوارك وشوفي الوالدة.. البركة فيها.. ما هى طول عمرها غلبانة. عندما حملت القابلة الجنين الميت وانطلقت به إلى المدافن عسى أن تجد من تدفنها معه، فتكون له نورا فى قبرة.. كالاعتقاد السائد..لكنها سمعت صوتا ضعيفا، وحركةً فى القميص الذى لفت به البنت.. نظرت المرأة للفم المفتوح فى وهن والأصابع وهى تنبسط وتتقلص ، والصدر يعلو ويهبط. شهقت وهي تعود مسرعةً إلى دار "جابر" تقول فى ذهول: "بخاطرها" عايشة ياولاد! سبحان الله!! قبل السبوع.. ماتت "قطيفة".. وأصبحت المولودة المسكينة يتيمة الأب والأم.. وانتشر الخبر فى البلدة كلها.. الميتة بنت الميت صحيت وعايشة. أصبحت حكاية (جابر وقطيفة) و(بخاطرها ) على كل لسان.. وكأنها من حكاوي الرَّبابة.
نشأت الطفلة فى حجر جدتها العجوز، تذكرها كل لحظة بموت إبنتها الغالية.. فتدعو عليها وتلقيها إلى الجارات يتبادلن إرضاعها وتربيتها فى غير حماس، لم تذق طعم الحنان، لم تعرف دفء الأسرة، أكملت الجدة.. لا نعرف يا ابنتى لماذا لم يتقدم أحد للزواج منها. هل بسبب سمعة أبيها البطالة فيما مضى! أم بسبب ولادتها العجيبة، وما أطلقه عليها الناس من اسم عجيب التصق بها ـ "الميتة بنت الميت" ـ إن الناس يا ابنتى يحملون الموتَ فوق اكتافهم فى كل لحظة، ولكنهم يكرهون ـ حتى أشجعهم ـ أى شئ يذكرهم به.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى