عبد الفتاح القرقني - مستشفى ليس كسائر المستشفيات

ذات يوم شتويّ على السّاعة الثّانية بعد الزّوال ، أزاح نزار الغطاء عن جسمه المنهـــــــــــــــــوك و استوى قائم. فرك عينيه الذّابلتين فركا خفيفا من كثرة النّوم على السّرير الأبيـض و من حدّة الضّجر الذي يعصف به فالنّهار في المستشفى يعادل فصلا من فصول السّنة .
نزار كهل مديد القامة، نحيف الجسم ، ليمونيّ الوجه ، غائر العينين ، زائغ النّظرات ، وئيد الخطوات ، هدّه المرض هدّا و أفناه إفناء . إنّه مقيم بالمستشفى منذ أسبوع لأنّه يعاني من نزلة صدريّة: نوبات من السّعال ينخلع لها صدره انخلاعا و ضيق في التّنفّس و حمّى شديدة مصحوبة بارتعاش عنيـــــــف و شلاّل من العرق في هذا الفصل القارس، الممطر
الحمد لله ربّ العالمين فخلال هذا اليوم هو أفضل حالا من ذي قبــــــــل : سعال ضنيـــــن و تنفّس يسيــــــــر و تدرّج ملحوظ نحو الشّفاء ترجمته حركيّته المذهلـــــة و إشراقة وجهــــــه و بريق عينيه العسليّتين و بسماته الرّقراقة ، المنبلجة كالفلق على ثغره . ها هو يمسح بكفّه الأيمن بلّور النّافذة و يلقي من خلاله نظرات فاحصة بعيدة الغور لعلّـه يجلي عن نفسه ضباب الملل المخيّم عليها منذ ولوجه هذه الحجــــــــرة المفتقرة لوسائل التّدفئـــة و التّسليّة و التّثقيف : التّلفاز معطّب عليه ركام مــن الغبـــــار و المكيّف مقطّــع الأوصال و الكتـــب و المجلاّت و الجرائد لا أثر لها على المناضد و في الحقائب على ما يبدو ما عدى حقيبته فعدد الرّوايـات و المجلاّت فيها تجاوز عدد قطع الملابس النرصّفة في عناية و نظام فائق .
للطّبيعة وجه عابس عار من الأزهار و البسمات : الشّمس احتجبت خلف فسيفساء من الغمام الرّماديّ حينا الأسود حينا آخر ... رذاذ تقاطر قطرة قطرة في وقع متناوب ، رتيب تشمئزّ منه روحه السّجينة في محبسه الّذي فرضته عليه العلّة فرضا لا مفرّ منه ... أوراق بعض الأشجار تركت أغصانا ألفت عناقها و تناثرت فوق أديم الأرض كتناثر العبرات. هي أوراق مضطربة، ذابلة، بين اخضرار و اصفرار، خفيفة سرعان ما لهت بها يد الهواء البارد هنيهة ثمّ أعادت جمعها بعد شتات.
أصغى إلى الأطيار كي يسمع شدوها فإذا هي سكتت كئيبة و حلّقت في سماء الحديقة باحثة عن الدّفء و الأمان بين أحضان الصّنوبر و السّنديان الدّائم الاخضرار.
ما إن لسع البرد القارص المتسلّل من زجاج النّوافذ المهشم نزارا لسعات مؤذية كلسعات العقارب الشّامتة حتّى هرع إلى فراشه و أسدل الغطاء على جسمه المقرور و هو يلتمـــــس الدّفء و الطّمأنينة في قوقعته الحلزونيّة بعيدا عن عواصف الشّتاء و كدر العلّة و أدران الحياة .
على حين غرّة، في نفس الغرفة الّتي يقيم فيها نزار دار حوار مستفيض بين شيخ عليل في عقده السّــادس و ابنه مراد فتابعه جملة جملة ، فكرة فكرة دون تغافل و هو يفتل بأنامله الرّقيقة شعره الطّويل، الّذ وخطه شيب ضئيل .
- « يا أبتاه هل تحسّنت حالك اليوم ؟»
- « في هذا اليوم بالذّات ، استفحلت أوجاعي فهي لا تحتمل : وهن في الحركة و آلام حاّدة في كامل بدنـــــي و عجز عن تناول الغداء »
- «هل أعلمت الطّبيبة المشرفة على علاجك إبّان فحصها لك صباحا ؟»
- « كانت زيارتها خاطفة فهي مع الأسف ما أصغت إلى كلامي و توسّلاتي و تنهّداتــــي
و آهاتي . بصريح العبارة لم تعرني أدنى اهتمام طفّتني ، طفّتني مكتفية بابتسامة صفراء شنّجت أعصابي و ضاعفت كدري.
- « أين الفحوص المتأنّية ؟ أين المتابعة الصحّيّة ؟ أين العناية المركّزة ؟ أين الإنعاش المسترسل في حالات الشدّة ؟ أين الوفاء للطّبّ هذا القطاع الإنسانيّ بالدّرجة الأولى ؟ أين الوطنيّة الصّادقة ؟ أين ... أين ... أين ...
مات الضّمير المهنيّ عند بعض الأطبّاء و الممرّضين و أقبر في هوّة سحيقة لا صدى لها بأرض منسيّة، مجهولة النّسب و الهويّة. سأزعق في وجوه هؤلاء الكسالى و أفضحهم أمام الجميع فالسّاكت عن حقه شيطان أخرس.»
- « إنّهم أساؤوا فهم الثّورة فهم لا يميّزون بين حقوقهم و واجباتهـــــــــم ، بين الحريّـــة
و التّسيّب ، بين الجدّ و التّهاون . حافظ على هدوئـــك فلا داعي للتّوتّر و الانفعـــال و عجّل بتدارك الأمر قبل فوات الأوان لأنّ وضعي الصّحيّ صعب يتطلّب اليقظة الطبيّة في كلّ حين
و آن».
- « هل أنقلك على متن سيّارة الإسعاف إلى مصحّة ذائعة الصّيت ؟»
- « البؤس حليفي و التّعاسة ظلّي فأنا لا أملك مالا يخوّل لي العلاج هنـــــــــاك و أنت عامل يوميّ تكدح لتأمين قوت العائلة فمن أين ستوفّر مصاريف العلاج الباهظة الّتي لا يقدر على تسديدها إلاّ الأثرياء أو الأشقّاء الوافدون من ليبيا بأعداد غفيرة ».
- « من طلب العلى سهر الليالي هي حكمة عملت بها فأفنيت طفولتـي و شبابي في طلب العلم
و في النهاية تبخّرت أحلامي و صارت نسيا منسيّا بالرّغم من حصولي على شهادة
الأستاذيّة ».
- « تذرّع بالجلد فهو جميل و بحول الله الأيّام القادمة هي طلائع بشر و يمن بالنّسبة لك ما دمت راضيا عنك فما رضاء الله إلاّ برضاء الوالدين»
- « أقترح عليك أن تبيع أمّي مصوغها في سبيل علاجك و عندما أشتغل أستاذا سأتكفّل بتجديده لها ».
- « نعم الرّأي ».
- « لا تشغل بالك فأنا سأستشيرها في ذلك فما خاب من استشار. إن وافقت سأقوم بالتّرتيبات اللاّزمة لنقلك إلى أفضل مصحّة» .
- « على جناح السّرعة فخير البرّ عاجله . يا إله الكون يا سندي . أنت يا رباه معتمدي . أسألك منيبا ، تائبا خاشعا حسن الختام و جعل علّتي تمحيصا لا تنغيصا ، تذكيرا لا تنكيرا ، أدبا لا غضبا ».
- « إلى اللّقاء يا أبتي و ما ألتمسه منك هو أن تكثر من الذّكر لعلّّ ساعة الفرج قريبة ».
- « في أمان الله ، رافقتك السّلامة يا ولدي ».
لمّا كشف نزار الغطاء عن وجهه تفرّس في محيّا العمّ يحي المصفرّ كالورس و يده اليمنى المعروقة ، المرتجفة ، الممتـــدّة إلى كأس قهـــوة دون بلوغه و سمعه يردّد بصوت خافت ، متهدّج يكاد لا يسمع :« هل من قهوة دافئة تسدّ رمقي و تخفّف من أوجاع بطني ؟»
آنذاك ، قفز نزار من سريره الدّافئ و ارتدى معطفه و قدّم لجــاره المسكين ، المستغيث قهوة ساخنة دخانها الرّماديّ متصاعد في شكل لولبيّ و لسان حاله يقول في منتهى الطّلاقة و الرّقّة : تفضّل يا سيّدي الكريم لك ما أردت و أنا رهن إشارتك إبّان احتياجك للمؤازرة .
احتسى شيخنا قهوته على مهــــــل و وضع الكأس الفارغة في تؤدة على الطّاولـــــة و على شفتيه المتورّمتين، المتدليّتين أنّات مسحوقة و باقات من الكلام الطّيّب تفوح بعبير الحمد لربّ العالمين و ببعض الأدعية المأثورة لسيّد الأنام محمّد صلّى الله عليه و سلّم .
أثناء آذان العصر، طلب من نزار في أدب أن يسلّمه صعيدا طيّبا وهو عبارة عن حجارة ملساء محفوظة في سلّة من سعف النّخيـــل مع مصحف كريم و سجّادة خضــراء فلبّى طلبه عن طيب خاطر و دون تراخ.
ها هو يتيمّم و يؤدّي صلاة العصر خاشعا و هو جالس ثمّ يتمدّد على فراشه لنيل نصيب من الرّاحة بعد إحساسه بسكينة تغمر قلبه .
أمّا نزار فقد تلهّى بمطالعة قصّة السّندباد البحريّ الطّريفة إلى أن استرخت أعضاؤه و غلبه النّعاس فنام و علا شخيره و طفق يحلم و قد رأى فيما رأى رخّا عظيم الخلقة ، عريض الأجنحة يربض قرب سريره . لهذا الطّائر جسم عملاق به منقار معقّف كالخنجر المسنون و ريش أبيض في طول جريــــــــد النّخــــل و مخالب صفراء ، فاقع لونها شبيهة في شكلها بالصّوارم البتّارة .
أوجس منه خيفة فدبّ في قلبه الرّعب ، وطار عـــقله ، و اقشعرّ بدنــــــه ، و جفّ ريقه ،
و عقل لسانه ، وانتابته حيرة فتاه في بحر من الهواجس عاتي الأمواج ، مترامي الأطراف يرغو و يزبد و يزمجر كالرّعد . حينئذ استعاذ بالله من كلّ شيطان ليستمدّ منه الاطمئنان و العون ثمّ بادره بالحديث في صوت مرتجّ ، متهدّج فاتر النّبرات :
- « من أنت أيّها الطّائر الموحش ؟»
- « غاق غاق غاق ... غاق غاق غاق»
- « الّتي تنعق هي الغربان»
- « أنا طائر الرخّ العظيم فقد ورد ذكري في رحلات السّندباد البحريّ بكتاب ألف ليلـــة و ليلة
و في كثير من الخرافات ».
- « من أين دخلت و أنت كالطّود الأشمّ ؟»
- « دخلت إلى المستشفى في هيئة شيخ مسنّ محدودب الظّهر، وئيد الخطــــى و عند بلوغي هذه الحجرة في لمح البصر تحوّلت إلى رخّ ».
- « هل أنت ساحر ؟»
- « ما أنا بساحر أنا ملاك كسائر ملايين الملائكة أسكن في السّماوات العلى» .
- « لماذا جئت إلى هذا المكان ؟»
- « سأنقلك إلى جزيرة الواق واق فهي تزخر بأطبّاء عرب بارعين في الطّب طبّقت شهرتهم الآفاق ، هم أحفاد ابن سينـــا و ابن الجزّار و ابن النّفيس . ستعالج مجانا هناك خلال يومين
و تقضّي فترة نقاهة بين أحضان الطبيعة الفائقة الجمال في فندق فاخر ثمّ تعود إلى بيتك في صحّة جيّدة لا يتطرّق إليك أيّ مرض طيلة حياتك بمشيئة الله ».
- « شكرا جزيلا لك فصحّتي في تحسّن ملحوظ المظلم رغم نوره و لا تسترعي كلّ هذا الاهتمام ».
- « أيّها الرّجل الوسيم ألا تذكّرني باسمك».
- « أنا نزار، أنا نزار».
- « عفوا فأنا قد أخطأت العنوان ، أنا جئت لإنقاذ السّيّد يحي»
- « ها هو بجانبي يغطّ في نوم عميق لكن لن أسمح لك باختطافه . أ تجهل أنّه أنيسي في هذا البيت رغم نوره ؟».
- « القصص و الرّوايات الّتي بجانبك خير جليس لك في هذا الزّمان».
- « بم سأجيب أفراد عائلته لمّا يسألونني عنه؟».
- « اطمئنّوا عليه فلا داعي للحيرة عليه و اعلموا علم اليقين أنّه سيعالج عند خيرة الأطبّاء في جزيـــــرة الواق واق و سيعود إليكم فور شفائه» .
- « سيعتبرونني معتوها و لذلك سأنهرك و أطردك بهذه المكنسة المتّكئة على هذا الجدار فهي سلاحي الوحيد».
- « سألوي عنقك ليّا و أكسّر عظامك تكسيرا و تكون فريسة صائغة للنّسور. لن أهابك فأنا يمكن أن أحطـّم هذا البيت في ثوان معدودة بمخالبي فتكون بين أنقاضه».
- « لا ، لا تتصرّف تصرّفا أرعن ، أهوج ».
- « عليك أن لا تثير غضبي و تعترض سبيلي حتّى تسلم من أذائي . أنا طيّب مع الطّيّبين و شرس مع الشُّرْسِ ».
- « كن هادئا، رصينا و ما العمّ يحي إلاّ أمانة في رقبتك».
- « المؤمن إذا عاهد وفى و إذا صاحب صفا».
- « كلامك مطمئن للغاية لكن من أخبرك بمرضه».
- « أصخت له من جزيرة الواق واق الفاتنة ، الغنّاء و هو يئنّ أنينا مؤلما دون انقطاع
و يدعو الله بقلب منيب أن يشفيه فاستجبت لندائه إشفاقا عليه في لمح البصر » .
- « أين تقع جزيرة الواق واق ؟».
- « في بحر الصّين على بعد آلاف الكيلومترات » .
- « لماذا سمّيت هذه الجزيرة النّائيّة بهذا الاسم المدهش» .
- « إنّ سبب إطلاق هذا الاسم الغريب عليها هو وجود ثمار بها على هيئة رؤوس نساء تتدلـّى بشعور طويلة معلـّقة بأغصان أشجارها إذا نضجت هوت فيمرّ الهواء بتجاويفها محدثا صوتا يقول واق واق»
- « كيف اهتديت إلى هذه الغرفة الذّابلة الأضواء ؟»
- « استعنت بهذا المنظار العجيب فهو قد يسّر لي إبصاركمـــــــا بدقّة متناهية و أنتما على سريريكما الأبيضين».
بقي نزار بضعة دقائق و هو فاغر فاه من شدّة الذّهول دون أن ينبس بكلمة واحدة ثمّ قال وقد فاضت على وجهه ابتسامة هادئة :
- « هل يمكن أن تسلّمني هذا المنظار السّحريّ ؟»
- « نعم يا سيّدي الفاضل فأنا واثق من شدّة فضولك ».
ما إن وجّه نزار عدسة المنظار في اتّجاه منزله حتّى رأى بشفافيّة مذهلة كلّ أفرد عائلته فركّز اهتمامه على ابنه الرّضيع لعظمة شوقه إليه ثمّ أهداه قبلتين طائرتين في الهواء آملا أن تنطبعا على وجنتيه المتورّدتين دون أن تعكّرا صفو بسمته الملائكيّة.
بعد هنيهة، أعاد نزار الأمانة إلى صاحبها متمنيّا أن يكون له منظار سحريّ يكشف به ما يدور حوله في وطنه العربيّ أو في أيّ مكان قصيّ من العالم ثمّ واصل حواره الشيّق دون ملل مع هذا الرّخّ العجيب .
- « كيف ستنقل جاري إلى تلك الجزيرة النّائية ؟
- « سأضعه في تؤدة و هو نائم على سريره فوق رقبتي بين طيّات ريشي النّاعم ، الطّويل حيـــــــــث الدّفء و الأمان و أرحل به إلى تلك الرّبوع الفيحـــاء ، المتحضّرة قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ دون أن يهوي أو يستفيق من غفوته.
- « رحلة ميمونة و عودة آمنة للسّيّد يحي فأنا سأشتاق إليه اشتياقا جارفا طوال غيابه عنّي»
- « مع السّلامــــــــة و أسأل الله إعانتي على أداء المهمّة » .
انغمس نزار في تفكير عميق له صلة وطيدة بهذه الرّحلة العجيبة و بما سيخبر به مرادا فهو يعرف أنّه لن يصدّقـــــه و سيعتبره مجنونا يهذي هذيانا سخيفا و كلامه مجرّد هراء لا أساس له من الصّواب .
و بينما كان نزار شارد الذهن يعضّ بنانه أسفا و تحسّرا على فراق رفيقه إذ أقلع الرّخّ
و مازال يعلــــــــو و يرتفع حتّى ظنّ أنّه بلغ سدرة المنتهى في السّماء السّابعة .
سرعان ما شبّ في الحجرة عويل شديد مزّق جدار الصّمت و قزّم الرّتابة المألوفة فيه فهبّ نزار من نومه مذعورا، يرتجف كالقصبة في مهبّ الرّيح . استطلع جليّة الأمــــر ملهوفا و في نفســــه انقباض صارخ و شجن متعال و جواد متمرّد ، ثائر على الوضع المزري بالمستشفى فهو سينسف أرخبيلا من بيوت العنكبوت عشّشت في ذهنـه و سيكسّر إهرامات من القيود كبّلته تكبيلا مقيتا و أسّرت حريّتــــــــــــه تأسيرا مذلاّ .
مشهد فظيع تنفطر لهوله القلوب و تشخص العيون و تخرس الألسنـــــــة و تشيب الولدان : امرأة مربوعة القامة ، ملتحفة بسفساري أناف سنّها عن الخمسيــــــن في ثـــــــــــــــــورة
و جنون : كانت تلطم وجهها و تنتف شعرها و تشقّ ثوبها و تنوح بصوت عال و قد جرت دمعات سخينة ، سخيّة على خدّيها :» زوجي مات ... زوجي مات ... مسكين عانى سكرات الموت و لفظ أنفاسه الأخيرة دون أن أجرّعه جرعا من الماء و ألقّنه الشّهادة . يا له من خبر مفزع !يا له من يــوم نحس ! عِشْرة طيّبة نسفها الموت في ثوان معدودة فتبّــــا و سحقا له تركني و أبنائي نصارع الفقـــــــــر و نقرع أبواب المستقبل الموصدة في وجل و اضطراب .
صاح في وجهها أحد الممرّضين ظانّا أنّها ستهدأ :
- « اسكتي و لا تعكّري راحة المرضى بعويلك و لا تنسي أنّ الموت حقّ فهو يترصّد كلّ إنسان جاء أجله المحتوم».
- « أنت و أمثالك أهملتم زوجي و لم تعتنوا به العناية اللاّزمة فكان الموت حليفه . عند الكثير منكم المريض لا قيمة له هو مجرّد رقم من الأرقام ».
- « المريض هو إنسان مبجّل و مكرّم نتابع علاجه بدقّة فتفـــرح عند شفائــــه و نحزن عند تعكّر صحّته»
- « هذا الصّباح كان زوجي يتنقّل في يسر داخل هذه الغرفة و يحكي معي عن شؤون عائلنا
و أوجاعه فحسبت أنّ حاله ستتحسّن و الآن فوجئت بما حصل له . لن أسامحكم ... لن أسامحكم»
- « نحن في هذا المستشفى نداوي و الفرج على الله و زوجك يا سيدتي عنده عدّة أمراض لم يتدرّج نحو الشفاء قيد أنملة.»
- « لماذا لم تتفطّن إلى وفاته فانطفأ كالفتيلة في القنديل الزّيتيّ ؟ كان عليك أن تبقى بجواره
و تسهر على راحته و تقدّم له الدّواء النّاجع في مواعيده . كان عليك أن تعلم الطّبيب باشتداد مرضه حتّى ينقل إلى بيت الإنعاش ».
- « كان موته مباغتا و لله يعلم أنّني ما تهاونت في تمريضه و لكن لا يمكن أن أكون بجانبه وقتا طويلا فأنا أتنقّل من مريض إلى مريض و من غرفة إلى أخرى» .
- « وضع هذا المستشفى محرج غير مطمئن فهو ينطبق عليه المثل العاميّ الاسم العالي و المربض الخالي».
- « إنّك أدميت قلبي بهذا الكلام الجارح فهو ينزف و يكاد أن ينفجر».
- « اتّقوا الله في هؤلاء المرضــى فهم أمانة ملقاة على عواتقكم فأيّ تقصير في علاجهم يمكن أن يتسبّب لهم في إعاقات مزمنة أو في وفاة مفاجئة. وفّروا التجهيزات الحديثة و اجتهدوا في علاجهم إن كانت لكم شعرة من الإيمـان و ضمائر يقظة و حبّ لأبناء هذا الوطن الغالي».
- « رسالتك وصلت و إن شاء الله تجد آذانا صاغية و عقولا نيّرة و قلوبا رحيمة».
من شدّة الكمـــــد ذرف نزار دمعا سخينا انسكب كالسّيل على خدّيه النّاتئين فجفّفه بمنديل أبيض و خاطب تلك المرأة الملتاعة في رصانة و جرأة :
- « الواقع مرّ كالصّبّار تماما فدار لقمان بقيت على حالها. هذا المستشفى بالرّغم من فساحته
و كثرة مبانيه يعاني من رداءة الخدمات للمرضى : نقص فادح في الإطار الطّبيّ و الأدوية تكاد تكون مفقودة و افتقار صارخ إلى أهمّ التّجهيزات و أصحاب الكفاءات العالية»
- « كلامك على غاية من الصحّة و أنا سأردف إليه ما يجول في خاطري و بضيق له صدري : انعدام الضمير عند بعض الأطبّاء و الممرّضين فهم يجرون لاهثين وراء المال من مصحّة إلى المصحّة دون أن تعنيهم كثيرا حالة المرضى هنا ».
- « حبّ المال من أجل الثّراء وأد الجانب الإنسانيّ عند الكثير من هؤلاء بحيث صار ينطبق عليهم المثل التّونسيّ العاميّ " عجوزة ما يهمّها قـــرص "»
- « الإخلال بالواجب أدّى إلى وفاة زوجي و إن كنت أومن بالقضاء و القدر» .
- « لا يجب أن نسكت عنه فلا بدّ من المطالبة بالإحاطة الصّحيّة للمرضــــى و توفير وسائل التّسليـــــــة و المعدّات الحديثـــة المسايرة للتقــــدّم العلمــــيّ و التكنولوجيّ ».
- « أشاطرك الرّأي فلا بدّ من أن نكون عمليّين نثمّن مجهودات الكادحين القلائل في المستشفى و نعبّر عن العديد من النّقائص فيه ليقع تلافيها خدمة للشّعب الكريم »
- « اطمئنّي سأحرّر رسالة في ذلك و سأتكفّل بتسليمها مباشرة إلى مدير المستشفى ضمانا لوصولها و أنت عليك أن تردّدي بصفة مسترسلة إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ حتّى تهدأ نفسك
و تزدان بصبر جميل كصبر سيّدنا أيّوب عليه السلام » .
- « أنا واثقة من أنّني أطلقت عقيرتي للنّواح نتيجة هذا الخطب الجلل الّذي مزّق صدري
و قصم بالأرزاء ظهري و أبقاني مرضوضة الفؤاد أجرّ أجنحتي المنكسرة في أسى حاد»
- « كان الله في عونك و إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا يحي لمحزونون».
هدأت هذه الأرملة في إذعان للأجل الّذي هو من قضاء الله و قـــدره لا مفرّ منــــــه و لكن كانت تحمل بين ضلوعها كرها شديدا لأولئك الّذين تقاعسوا في الاهتمام بزوجها العليل . ها قد رفعت الغطاء الأبيض عن وجهه القمحيّ بيدها اليمنى المرتعشة و قبّلته على جبينه البارد قبلات حارّة تنبض بالحبّ و الإخــــــلاص و في أجفانها عبرات الأسى : اطمئنّ أيّها الطّاهر النقيّ فأبنائي سأحفظهم بين أحضاني النّاعمة ، الدّافئة وأسهر على تربيتهم على النّحو الّذي ربّيتهم عليه و سأناضل في سبيل توفير القوت لهم و كلّ متطلّبات الحياة حتّى يعيشوا سعداء .
تدخّل مراد و هو دامع المقلتين ، شديد التّأثّر فأبعد أمّه في كنف الهدوء عن أبيـــــــه و أسدل الغطاء على وجهه المنير و هو يردّد : « يا موت فجعتني في من أحبّه و أبثّه سرّي و أعدّه فجري الجميل إذا ادلهمّ عليّ دهري . عليك رحمة الله يا أبي . نم قرير العين ، مرتاح البال في مثواك الأخير فأنا سأتحمّل مسؤولية هذه العائلة باقتدار ، باذلا ما في وسعي من تضحيات في سبيل استقرارها و تماسكــــها و هنائها ».
جـــاء رجل عملاق ، قويّ البنية ، فضّ ، غليظ القلب ، له بسمة شيطانيّة ، صفراء فطلـــــــب من مراد و أسرته في قسوة أن يفسحوا له المجال لنقل الفقيد يحي إلى غرفة الأموات على سرير ذي عجلات مطّاطيّــــــــــة .
و بعد جدال صريح و صاخب ، انصرف الجميع إلى شؤونهم فأمست الغرفة شبه خاوية يرين عليها وحشــــة و ملال : أهل يحي عادوا أدراجهم إلى منزلهم مطرقي الرّؤوس يجرّون أذيال الخيبة ، خطواتهم مكبّلة بأصفاد الشّجن . الممرّضون واصلوا أعمالهم مصرّين أن يكون أداؤهم أفضل من ذي قبل.
و ما إن جنّ اللّيل و لفّ الكون بجلبابه الأسود حتّى شعر نزار أكثر من ذي قبل بمرارة الأســى و ظلمة العزلة فهو قد اختلى بنفسه مضطربا ، متستّرا بغطاء صوفيّ يلوك ذكريات يومه العسيرة الهضم فهي مسيطرة على مخيّلته تكاد تتلف عقلـــــته و تحشره في مستشفى الرّازي بمنّوبة مع المجانين . كم تمنّى أن يشفى رفيقه فيستبشر بذلك استبشارا و يتهلّل وجهه بعد تقطّبه ويطفح قلبه بالغبطة بعد حزنه !
حان موعد العشاء فجاءت ممرّضة باسمة الثّغر ، رشيقة القوام ، أنيقة المظهر بطبق به أكلات متنوّعة دغدغت رائحتها الشهيّة أنفه . تناول لقيمات من الأرز لدفع غائلة الجوع ثمّ اندسّ في فراشه الدّافئ و انبرى في قراءة الرّحلة الخامسة للسّندباد للبحريّ فأبحر معه على متن قارب كبير من جزيرة إلى جزيرة و من بلد إلى بلد متجشّمين الصّعــاب و الأهوال في عزيمة و إصرار هذا مارس التّجارة و ذاك أطفأ في نهم ما به من شوق جارف إلى معرفة أحوال الشّعوب و عاداتهم و تقاليدهم و فنونهم .
في نهاية المطاف ، عاد السّندبـــاد إلى مدينة بغــــداد و معـــه ثروة طائلة من المـــــال
و اللّؤلؤ فلقيه أهلـه و أصحابه مبتهجين بعودته سالما غانما وعاد نزار إلى غرفته و هو قد أحسّ بسكينة غمرت قلبه و افترّ ثغره عن ابتسامة عذبة كابتسامة الوليد. ها هو يناجي نفسه في جوف ليل بهيم ، مغمض العينين ، سابحا على أمواج الخيال :
« قلبك يا حبيبي ليس رمسا للمآسي و الأشجان
قلبك يا حبيبي ربيع شكّلته عبقريّة فنّان
بريشة و أصباغ تموج بطيف من الألوان
فيه أطيار طليقة تشدو بأعذب الألحان
فيه ورود باسمة ، متألّقة على الأفنان
لها عبير يحاكي مسك الجنان
لا تحزن و لا تبتئس و ابتسم للحياة فإنّ بعد اللّيل الدّاجن صبح يرتسم .
لا تيأس و لو شمل العالم المنكر و كن كفجر الحياة الوضيء يداعبه الأمل النّيّر .
يا حبيب روحي آن الأوان أن ترقـص. و أنت جذلان ، نشوان ، طروب على أنغام هذين البيتين الرّائعين للشّاعر أبي القاسم الشّابّي :
ألا انهـضْ وسـرْ فـي سـبيلِ الحيـاةِ
فمــن نــامَ لـم تَنتَظِـرْهُ الحيــــــــاهْ
إلـى النُّـور فـالنور عـذْبٌ جـميــــل »
إلــى النــور فـالنور ظِـلُّ الإلــــهْ .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى