فاطمة مندى - ليلة الحكايات...

في شتاء بارد، كنا ندور حول جدتي كما لو أننا نلتف حول موقد يشع من وجنتيها الموردتين، كانت كلماتها الدافئة تسحر عيوننا التي تحدق في عينيها الزرقاوين كعيني قط.
لا نسمح لأي أحد منا أن يتكلم أثناء حديثها المشوق أو حتى يسألها، لم نتذكر يوما أنها لبست ثوباً بألوان زاهية، فمنذ أن ابصرنا نور وجهها وهي تلبس ثوبا أسود، ننتظر الليل لتوقد مشعلاً تعلقه أمي في سقف الغرفة، أو فانوساً في شباك صغير.
في ليلة كان المطر ينزل بهدوء وسكينة، حتى أن قطراته لم تحدث صوتا في صفيح الحظيرة، قبل أن يكتحل الظلام بمرود المصيبة وضعت لنا أمي عشاء خفيف، ثم رأينا جدتي وهي تصلي من جلوس،
ضحكت أمي بوجه أبي الذي همس بأذنها لأمر لم نكن ندركه في ذلك اليوم.
لم نكن ندع جدتي تشرع بحكايتها حتى قدوم فاطمة ابنت عمنا محمد.
تُجالسنا كعادتها في كل ليلة، كانت تقطع الطريق الموحل بصعوبة بالغة حتى تصل الى بيتنا، تغسل رجليها النحيفتين بماء الترعة، نسمع نباح الكلب الذي تسكته بصوتها الناعم كالحرير.
كان الكلب يشم أكمام ثوبها المطرز بورود حمراء وأخرى بيضاء كالثلج.
كنا نلعب في أوقات النهار الدافئة تحت أشعة الشمس، نركض في وسط حقول القطن، نلعب لعبة الغميضة،
نرجع الى البيت قبل آذان الظُهر.
كانت{ فاطمة } ترجع وحدها الى بيت أهلها، لكنها كانت تتسلى في طريقها مع صوت الضفادع الواقفة بكيسها المنتفخ،
تمسك واحدة منها تأخذها حتى آخر الدوار حيث بيتهم الطيني.
تأخرت {فاطمة } عن ليلة الحكايات هذا المساء، ربما المطر حال دون وصولها، سكت الكلب من نباحة منذ أكثر من نصف ساعة تقريبا.
ازداد قلق جدتنا التي همت بطرق الباب على أمي وأبي، توكأت على عصاتها وراحت تمشي كنملة صغيرة نحو غرفتيهما.
طرقت الباب بعصاها، وكنا نقف خلف ظهرها المقوس كالخيارة.
قال لها أبي وقد حاول أن يطمأنها:
- بأن اباها منع (فاطمة) من المجيء إلينا.
لم ترو لنا جدتي في تلك الليلة حكاية من حكايتها، بيد أنها لم تذق طعم النوم، فبين الفينة والاخرى كانت تفتح شباك الغرفة وتنظر على ماء الترعة، وخزت الكلب الذي كان نائماً بجوار نافذتها، لكن الكلب لم يتحرك، كانت تلك الليلة طويلة جداً فكل ما تفتح احدانا عينيها تجد جدتي جالسة كأنها صخرة منحوتة.
انبلج أول خيط للفجر، سمعت جدتي صوت ديك أبيض يقف على جدار البيت، وقفت تتحسر.
تثاقلت انفاسها، وراحت تجر برجليها الخاويتين نحو الخارج كأنها سلحفاة تقصد ماء الترعة.
خرجنا خلفها وقد ابتلت الأرض تماماً، جلست بهدوء وهي تنظر الى ماء الترعة وتنوح باكية:
(لمين احكي الحكايه) سمعنا صوت قوي كأنه يهز بيوت القرية، لا ندري هل من نواح جدتي أم من صوت الرجل الذي نزل الى الترعة وهو يصيح (غريق في الترعة)

فاطمة مندى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى