اليوم أصبحت رسّاما مكتمل المعالم، هذا ما تجذّر في نفسي، وانتزعته من فم الأصحاب بقوّة.
في غرفتي العلوية مئتزر بآزار مدهّن، لوحة ولدي الوحيد، لم تكتمل بعد، تعوزها بعض الرتوش.
من نافذة المرسم ظلّ يرقبني بعينين قلقتين، أنظر له وأمدّ له يدي مضمومة الأصابع وإبهام الشاخص، يعيد هيئة أصابعي لي بيده الغضّة الصغيرة، يبتسم ويهبط المراق.
لوحتي التي ستزيّن واجهة مدخل مدرسة ولدي، كانت ذكرى شاخصة كجوسق بين خرائب الأيام والسنين، تستحثّني دوما لدخولها، ولإمعان النظر إلى أجُرِّ جدرانها وبوّاباتها، وما خلّفته وشوم أيدي أبطالها من أثر بليغ في نفسي:
في آخر يوم من أيام شباط القارص، شاركني طالبٌ المقعد يوما واحدا: وجهٌ بخدّين نحيفين، جبهة عريضة بارزة، أذنان كبيرتان، أنف أفطس، وشعر مجعّد عصيٌّ على أن تتفاوض معه أفضل الأمشاط.
كلّ محاولاتي بأن ألجم نفسي باءت بالفشل، فمي الذي أفلت عنانه، ظلّ يصهل ضاحكا بقوّة مرّات.
امتدّت له يدي أوّل مرّة، كي أصافحه، وأمهّد درب العلاقة معه، سألته والطلّاب من ورائي:
- من أين أتيت؟، أمن هناك؟ وأشرت من النافذة إلى زُرقة السماء.
انفجر الجميع من الضحك، وعمّت الفوضى، سقط منهم على البلاط من سقط، وآخرون سارعوا إلى الحمّامات كي لا يبلّلوا سراويلهم.
تصفّح وجوهنا بثقة، وانسابت من فمه جملتان:
- أنا الناجي الوحيد من عائلتي، أنا الناجي الوحيد من مدرستي.
وجوهنا الضاحكة، سرى تحت جلدها دم أسود، وحفّت بنا هالة من الصمت الحزين. انسحب الطلّاب رويدا إلى مقاعدهم، فيما رحت أعيد فحص وجه هذا الكائن الجديد، الناجي الوحيد من الموت مرّتين!
دسّ يده في حقيبته، وأخرج ما بها، كانت حمولتها كرّاسات رسم فقط!
بانشداه قلت له:
- ما كلّ هذه العدد؟ أين باقي كتبك!
انتضى واحدة، قلّب رسوماتها وبصوت مبحوح قال:
هذه لـ (جمال) شريكي في المقعد، وهذه لـ (إحسان) يجلس في المقعد الأخير، وهذه لـ (أيهم) مراقب الصفّ، وهذه لـ (ميثم) فارس الصفّ وهذه... وهذه...و.
حتى عدّ ثمان وعشرين كرّاسة.
قال:
- ثمان وعشرون من صفّي، وآخرون تكدّسوا في أحواض سيّارات شحن صغيرة، وانطلقت بهم إلى جهة مجهولة، وبقيت أنا كظبيٍّ جريح، لا يجرؤ على المشي، يطلق "بغاما" مخنوقا، وراء قطيعه المتلاشي خلف الأفق، تحت سماء كدرة.
تنفّس بقوّة وأكمل:
- على مهل ولج الظلام الصفوف، إلى أن أستوى كليّا على بناية المدرسة، كنتُ في غرفة المرسم في الطابق العلويّ، أرتجف وأنشج وأبكي، لا صوت جرس ولا صافرة تنهي حصّة الرعب الطويلة.... في الأخير أُفلت الخوف وثاقي، طريق البيت الذي كان أليفا لدي صار موحشا؛ تناثرت الجثث على جانبيه، كانت أشبه بـ "قبور بلا شواهد"!
البيوت التي ودّعتها صباحا، هجعت النيران على رماد خشبها، وجوه الأهل والأصحاب، تحجّر مشهد الموت على تفاصيلها.
انقضت الثمان والعشرون يوما ولم ينتهِ شهر شباط؛ السنة الكبيسة زادته يوما واحدا على أيامه الناقصة، ولدي تعلو وجهه ابتسامة عريضة، ويستحثّني على الاسراع بتغليف لوحته:
باص يكتظّ بتلاميذ جذلين يجتاز المَرج، ظبيٌّ صغير بتعثّر يتبع قطيع الظباء الضارب بحوافره الصلبة الأرض، وثمان وعشرون من طيور "الكركي" تلتحق بسماء مشعّة.
__________
"قبورٌ بلا شواهد" عنوان مسرحية للكاتب المسرحيّ العراقيّ:( عمّار نعمة جابر)
في غرفتي العلوية مئتزر بآزار مدهّن، لوحة ولدي الوحيد، لم تكتمل بعد، تعوزها بعض الرتوش.
من نافذة المرسم ظلّ يرقبني بعينين قلقتين، أنظر له وأمدّ له يدي مضمومة الأصابع وإبهام الشاخص، يعيد هيئة أصابعي لي بيده الغضّة الصغيرة، يبتسم ويهبط المراق.
لوحتي التي ستزيّن واجهة مدخل مدرسة ولدي، كانت ذكرى شاخصة كجوسق بين خرائب الأيام والسنين، تستحثّني دوما لدخولها، ولإمعان النظر إلى أجُرِّ جدرانها وبوّاباتها، وما خلّفته وشوم أيدي أبطالها من أثر بليغ في نفسي:
في آخر يوم من أيام شباط القارص، شاركني طالبٌ المقعد يوما واحدا: وجهٌ بخدّين نحيفين، جبهة عريضة بارزة، أذنان كبيرتان، أنف أفطس، وشعر مجعّد عصيٌّ على أن تتفاوض معه أفضل الأمشاط.
كلّ محاولاتي بأن ألجم نفسي باءت بالفشل، فمي الذي أفلت عنانه، ظلّ يصهل ضاحكا بقوّة مرّات.
امتدّت له يدي أوّل مرّة، كي أصافحه، وأمهّد درب العلاقة معه، سألته والطلّاب من ورائي:
- من أين أتيت؟، أمن هناك؟ وأشرت من النافذة إلى زُرقة السماء.
انفجر الجميع من الضحك، وعمّت الفوضى، سقط منهم على البلاط من سقط، وآخرون سارعوا إلى الحمّامات كي لا يبلّلوا سراويلهم.
تصفّح وجوهنا بثقة، وانسابت من فمه جملتان:
- أنا الناجي الوحيد من عائلتي، أنا الناجي الوحيد من مدرستي.
وجوهنا الضاحكة، سرى تحت جلدها دم أسود، وحفّت بنا هالة من الصمت الحزين. انسحب الطلّاب رويدا إلى مقاعدهم، فيما رحت أعيد فحص وجه هذا الكائن الجديد، الناجي الوحيد من الموت مرّتين!
دسّ يده في حقيبته، وأخرج ما بها، كانت حمولتها كرّاسات رسم فقط!
بانشداه قلت له:
- ما كلّ هذه العدد؟ أين باقي كتبك!
انتضى واحدة، قلّب رسوماتها وبصوت مبحوح قال:
هذه لـ (جمال) شريكي في المقعد، وهذه لـ (إحسان) يجلس في المقعد الأخير، وهذه لـ (أيهم) مراقب الصفّ، وهذه لـ (ميثم) فارس الصفّ وهذه... وهذه...و.
حتى عدّ ثمان وعشرين كرّاسة.
قال:
- ثمان وعشرون من صفّي، وآخرون تكدّسوا في أحواض سيّارات شحن صغيرة، وانطلقت بهم إلى جهة مجهولة، وبقيت أنا كظبيٍّ جريح، لا يجرؤ على المشي، يطلق "بغاما" مخنوقا، وراء قطيعه المتلاشي خلف الأفق، تحت سماء كدرة.
تنفّس بقوّة وأكمل:
- على مهل ولج الظلام الصفوف، إلى أن أستوى كليّا على بناية المدرسة، كنتُ في غرفة المرسم في الطابق العلويّ، أرتجف وأنشج وأبكي، لا صوت جرس ولا صافرة تنهي حصّة الرعب الطويلة.... في الأخير أُفلت الخوف وثاقي، طريق البيت الذي كان أليفا لدي صار موحشا؛ تناثرت الجثث على جانبيه، كانت أشبه بـ "قبور بلا شواهد"!
البيوت التي ودّعتها صباحا، هجعت النيران على رماد خشبها، وجوه الأهل والأصحاب، تحجّر مشهد الموت على تفاصيلها.
انقضت الثمان والعشرون يوما ولم ينتهِ شهر شباط؛ السنة الكبيسة زادته يوما واحدا على أيامه الناقصة، ولدي تعلو وجهه ابتسامة عريضة، ويستحثّني على الاسراع بتغليف لوحته:
باص يكتظّ بتلاميذ جذلين يجتاز المَرج، ظبيٌّ صغير بتعثّر يتبع قطيع الظباء الضارب بحوافره الصلبة الأرض، وثمان وعشرون من طيور "الكركي" تلتحق بسماء مشعّة.
__________
"قبورٌ بلا شواهد" عنوان مسرحية للكاتب المسرحيّ العراقيّ:( عمّار نعمة جابر)