تابعتُ طريقي إلى المخيم (مخيم العائدين في درعا) الذي ولدت فيه وقضيت طفولتي. لكن ما وجدته هناك كان مشهداً يفوق كل وصف. الدمار كان حكاية صامتة تُروى على جدران متهالكة، وشوارع مليئة بأنقاض حياة لم تعد كما كانت. شعرت أن كل حجر هناك يحمل في طياته أنين من عاشوا ورحلوا. وفي المخيم مررتُ بمدرسة الطفولة، حيث قضيت سنواتي الأولى في المرحلة الابتدائية، من الصف الأول إلى الثالث. مدرسة كفركنا… الاسم وحده كان كفيلاً بأن يفتح أبواب الذاكرة، لكن الواقع أمامي كان مختلفاً تماماً. لم أجد المدرسة التي عرفتها، بل بقايا جدران متآكلة، ساحات خاوية، وركاماً يروي حكاية الدمار. كانت المدرسة أثراً بعد عين، تحتاج إلى الكثير لإعادة البناء، وكأنها ليست مجرد مبنى تهدم، بل جزءٌ من طفولتنا قد اختفى تحت الأنقاض.
كنت أسمع داخلي ضحكاتنا القديمة تتردد في الأرجاء، خطواتنا الصغيرة التي كانت تهرول في الممرات، أصوات المعلمين وهم يلقنوننا الحروف الأولى للحياة. لكن كل ذلك لم يكن سوى صدى بعيد، تلاشى أمام مشهد الخراب. تأملت المكان طويلاً، وأنا أتساءل: هل يمكن إعادة بناء ما تهدم؟ هل يمكن لضحكات الأطفال أن تعود إلى ساحاتها يوماً؟
كان الوقوف هناك موجعاً، لكنه كان شهادة أخرى على أن الحرب لم تسرق فقط البيوت، بل امتدت إلى ذكرياتنا، إلى الأماكن التي صنعتنا، إلى الجذور التي نشأنا فيها.
واصلت المسير إلى حي "طريق السد"، حيث منزل عائلتنا، الذي أصبح غير قابل للسكن. ومع ذلك، صعدت إلى البيت، كمن يتشبث بما تبقى من ذكريات، يحاول أن يمسك بخيوط ماضٍ لا يزال يطارد حاضره. داخل الغرف، كانت الذكريات تحاصرني كأنها أشباح تطل من كل زاوية. مربى الطفولة الذي صنعته أمي ذات يوم، لم يعد له وجود؛ وكأن الحرب لم تكتفِ بإطفاء الأنوار، بل حاولت محو كل أثر للدفء الذي عشناه. وبين الأنقاض، وجدت مجلد (تفسير الجلالين)، تغطيه طبقة من الغبار. نفضت الغبار عنه ببطء كأنني ألمس جزءاً من الماضي الذي يرفض الزوال. أعدته إلى مكانه، وكأنني أخشى أن تفقد الذكريات ما تبقى من رمزية وجودها.
في ذلك البيت، شعرت بحضور أبي. كان طيفه يملأ المكان. تذكرت كيف كان يجلس مقابل التلفاز، على كرسيه المفضل، يراقبنا ونحن نلهو، أو يكتب بخطه المميز ملاحظاته التي لطالما احتفظ بها لنفسه. كان وجوده بيننا طمأنينة خفية، وكأنه كان الجدار الذي نستند إليه حين تهتز الحياة من حولنا.
حين حاولت الصعود إلى الطابق العلوي، حيث عشنا أنا وزوجتي، وجدت الدرج مدمراً بالكامل. لم أستطع الصعود لرؤية ما تبقى هناك. شعرت بالعجز، وكأن هذا الخراب لم يدمر فقط الحجارة، بل أصاب قدرتي على استيعاب ما حدث. أردت أن أرى ما بقي من حياتنا هناك، لكن يبدو أن الذكريات قررت أن تبقى في مكانها، بعيدة عن متناول يدي، وكأنها تحفظ نفسها من أن تلوثها مرارة الحاضر. في أعلى المنزل، كان العلم الفلسطيني لا يزال مثبتاً على سارية طويلة. أذكر جيداً لحظة رفعته هناك قبل الثورة بسنوات، كنت أرى فيه رمزاً للحرية والانتماء. كان يرفرف عالياً وكأنه يخاطب السماء، معلناً أننا هنا رغم كل شيء. وحتى الآن، لا تزال تلك الصورة محفورة في ذاكرتي، تذكرني أن الأمل يمكنه أن يصمد حتى وسط الخراب. عندها أدركت أن البيت الذي صعدت إليه لم يكن مجرد مكان، بل هو امتداد لروحي، لحياتي التي كانت ولم تعد. ربما كان الحطام حولي شاهداً على نهاية زمن مضى، لكن الذكريات التي احتضنها هذا البيت ستبقى حية في داخلي. مهما حاول الخراب أن يبتلع الماضي، تبقى الذكريات شاهدة على أننا عشنا، حلمنا، وأحببنا.
في تلك اللحظة، نظرت إلى الحي من جديد، حيث كان العلم الفلسطيني يرفرف فوق الحطام، كأنه يهمس بأن الصمود ليس في الحجارة، بل في القلوب التي لا تزال تنبض بالأمل. غادرت المكان، لكنني لم أغادر ذكرياتي؛ حملتها معي كما حملت حلم العودة، فالأوطان قد تُدمَّر، لكن أرواحنا تظل مأهولة بها، مهما بعدنا عنها أو فرقتنا المسافات.
كنت أسمع داخلي ضحكاتنا القديمة تتردد في الأرجاء، خطواتنا الصغيرة التي كانت تهرول في الممرات، أصوات المعلمين وهم يلقنوننا الحروف الأولى للحياة. لكن كل ذلك لم يكن سوى صدى بعيد، تلاشى أمام مشهد الخراب. تأملت المكان طويلاً، وأنا أتساءل: هل يمكن إعادة بناء ما تهدم؟ هل يمكن لضحكات الأطفال أن تعود إلى ساحاتها يوماً؟
كان الوقوف هناك موجعاً، لكنه كان شهادة أخرى على أن الحرب لم تسرق فقط البيوت، بل امتدت إلى ذكرياتنا، إلى الأماكن التي صنعتنا، إلى الجذور التي نشأنا فيها.
واصلت المسير إلى حي "طريق السد"، حيث منزل عائلتنا، الذي أصبح غير قابل للسكن. ومع ذلك، صعدت إلى البيت، كمن يتشبث بما تبقى من ذكريات، يحاول أن يمسك بخيوط ماضٍ لا يزال يطارد حاضره. داخل الغرف، كانت الذكريات تحاصرني كأنها أشباح تطل من كل زاوية. مربى الطفولة الذي صنعته أمي ذات يوم، لم يعد له وجود؛ وكأن الحرب لم تكتفِ بإطفاء الأنوار، بل حاولت محو كل أثر للدفء الذي عشناه. وبين الأنقاض، وجدت مجلد (تفسير الجلالين)، تغطيه طبقة من الغبار. نفضت الغبار عنه ببطء كأنني ألمس جزءاً من الماضي الذي يرفض الزوال. أعدته إلى مكانه، وكأنني أخشى أن تفقد الذكريات ما تبقى من رمزية وجودها.
في ذلك البيت، شعرت بحضور أبي. كان طيفه يملأ المكان. تذكرت كيف كان يجلس مقابل التلفاز، على كرسيه المفضل، يراقبنا ونحن نلهو، أو يكتب بخطه المميز ملاحظاته التي لطالما احتفظ بها لنفسه. كان وجوده بيننا طمأنينة خفية، وكأنه كان الجدار الذي نستند إليه حين تهتز الحياة من حولنا.
حين حاولت الصعود إلى الطابق العلوي، حيث عشنا أنا وزوجتي، وجدت الدرج مدمراً بالكامل. لم أستطع الصعود لرؤية ما تبقى هناك. شعرت بالعجز، وكأن هذا الخراب لم يدمر فقط الحجارة، بل أصاب قدرتي على استيعاب ما حدث. أردت أن أرى ما بقي من حياتنا هناك، لكن يبدو أن الذكريات قررت أن تبقى في مكانها، بعيدة عن متناول يدي، وكأنها تحفظ نفسها من أن تلوثها مرارة الحاضر. في أعلى المنزل، كان العلم الفلسطيني لا يزال مثبتاً على سارية طويلة. أذكر جيداً لحظة رفعته هناك قبل الثورة بسنوات، كنت أرى فيه رمزاً للحرية والانتماء. كان يرفرف عالياً وكأنه يخاطب السماء، معلناً أننا هنا رغم كل شيء. وحتى الآن، لا تزال تلك الصورة محفورة في ذاكرتي، تذكرني أن الأمل يمكنه أن يصمد حتى وسط الخراب. عندها أدركت أن البيت الذي صعدت إليه لم يكن مجرد مكان، بل هو امتداد لروحي، لحياتي التي كانت ولم تعد. ربما كان الحطام حولي شاهداً على نهاية زمن مضى، لكن الذكريات التي احتضنها هذا البيت ستبقى حية في داخلي. مهما حاول الخراب أن يبتلع الماضي، تبقى الذكريات شاهدة على أننا عشنا، حلمنا، وأحببنا.
في تلك اللحظة، نظرت إلى الحي من جديد، حيث كان العلم الفلسطيني يرفرف فوق الحطام، كأنه يهمس بأن الصمود ليس في الحجارة، بل في القلوب التي لا تزال تنبض بالأمل. غادرت المكان، لكنني لم أغادر ذكرياتي؛ حملتها معي كما حملت حلم العودة، فالأوطان قد تُدمَّر، لكن أرواحنا تظل مأهولة بها، مهما بعدنا عنها أو فرقتنا المسافات.