الشيء الذي لم أفهمه أبداً هو لماذا يتم الإبقاء على ألف واو الجماعة في أفعال الأمر؛ مثل: (اتحدوا). ولكن لا بأس؛ ففي كل الأحوال يمكننا أن نستخدم لغة أخرى لكي نتجنب فلسفة النحو المعقدة. فالمهم في الأمر هو أن هذا الشعار الذي تبدد فلم يبق إلا كنقش ساخر في قبر ماركس يبدو كما لو كان قد بُعث من جديد. وذلك بعد أن تسارع الإيمان العميق بنظرية المؤامرة بحيث لم تعد نظرية -لأنها لم تكن كذلك أبداً- على الأقل ليس أكثر سحابية من أحاسيسنا البشرية.
الشعوب التي تخضع لمنهج المحاصرة الذهنية، كانت كذلك منذ ظهور الملكية الخاصة، ولكنها ازدادت خضوعاً للحصار حتى انتفخت كالأكياس الدهنية على الجلد. ويبدوا أن نصاً أدبياً تافهاً وعميقاً كذلك الذي كتبته منذ زمن قد حفز البعض للانتقام من الجلادين. ذلك الذي اسميته "ممشى الولد والكلب" دون أن يفهمه إلا شاب كان يلف الأنشوطة حول رقبته ويقرأه بخيال المخدَّرين بالكوكايين والهيروين والموسيقى والشعر والحب والأحلام المجهضة. فقد نزع الأنشوطة عن رقبته ونهض من عمق قبره كمارد من تراب، وأعاد الشعار السخيف مردداً جملة النص الأدبي الحمقاء: "ستحدث العدالة في العالم عندما يشنق جميع العمال والفقراء والبؤساء أنفسهم" مقرراً وضع النص موضع التنفيذ.
وعلى نحو أو آخر -ونحن في معرض حكاية قصيرة لا تعني شيئاً- فقد نجح البؤساء في فهم أنهم لا يملكون سوى الإحساس فقط، إذ أن الحياة ليست سوى إحساس، ولكنها أحاسيس مجردة؛ كشبكة خيوط الجهاز العصبي.
"يا بؤساء العالم انتحروا"
هكذا تسارع انتشار الشعار الجديد في كل محافظات العالم ذات الأسوار السلطوية الفولاذية والماسية في نفس الوقت، وقال بعض المتفائلين من المتنفذين: هكذا أحسنوا إلى أنفسهم بدلاً عن جريمة كنا سنرتكبها. أي ما أسموه قبل زمن بالمليار الذهبي، عبر السعي الدؤوب إلى استبدال قوة الجسد المكون من لحم وعظم ودم وعضلات ومخ بالروبوتات الخاضعة والذكاء الاصطناعي المسيطر عليه؛ ولا مركزية العملات.
لقد حدث ما حدث، وانتحر الملايين من البؤساء في بعض بقاع الأرض، فانطفأت المصابيح، وكانت النتائج كارثية على أصحاب الشوكة. فلقد توقف كل شيء تقريباً. لقد انتهى عصر الحصاد البشري. انهارت العملات الرقمية الوهمية، وتوقفت المشاريع الكبرى والمتوسطة والصغرى، وانحبست صنابير المياه، والأخطر من ذلك أن الأرض بارت، والطواحين هُجرت، والمخابز تعطلت، فبالأكل وحده يحيا الإنسان. وهكذا استشعر الأغنياء في البقاع الأخرى خطر ما يحدث، وتنادوا مجتمعين، ليوقفوا هذه المهزلة:
-من سنحكم؟
-من سنسرق؟
-من سيعمل أعمال هؤلاء القذرين القذرة؟
وكموسيقى مرحة، بدأوا خطة التملق الأكبر. فرفعوا الأجور والمرتبات، واستقطبوا الشاب المتمرد فمنحوه القصور والسيارات الفارهة وحسناء دربوها تدريباً جيداً على إدارة الاحتكار العاطفي. فنحت لهم شعاراً جديداً: (السعادة تولد بعد موت الطموحات).. ورغم أنه شعار صيغ بركاكة وعلى عجل، لكنهم أنفقوا المليارات على البروباغندا، وتم تلخيصه إلى (لا سعادة مع الطموحات)، واضيفت إليه حِكَمٌ أخرى ك(الحياة لحظة).. وتم إلغاء العديد من القوانين المقيدة للانفتاح على الوجود اللازمكاني، ونُصبت الأفعوانيات العملاقة المجانية لضخ الادرينالين. وسمح باقتناء السلاح بدون ترخيص والتشكيلات العصابية. وعلى منقيات المياه ضاعفوا السيريتونين. ونشأت أجهزة للبهجة.
وهكذا بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها.
استمر الوضع هكذا لبضع سنين، ثم تم إلغاء الشعارات، وأحييت القوانين ودمرت الأفعوانات، وفرضت تصاريح مدفوعة على حمل السلاحية، وقننت التشكيلات العصابية. وشُنق الشاب المتمرد بتهمة اغتصاب قاصر.
(تمت)
___
صباح شتائي مضطرب/ ٣١ يناير ٢٠٢٥م
الشعوب التي تخضع لمنهج المحاصرة الذهنية، كانت كذلك منذ ظهور الملكية الخاصة، ولكنها ازدادت خضوعاً للحصار حتى انتفخت كالأكياس الدهنية على الجلد. ويبدوا أن نصاً أدبياً تافهاً وعميقاً كذلك الذي كتبته منذ زمن قد حفز البعض للانتقام من الجلادين. ذلك الذي اسميته "ممشى الولد والكلب" دون أن يفهمه إلا شاب كان يلف الأنشوطة حول رقبته ويقرأه بخيال المخدَّرين بالكوكايين والهيروين والموسيقى والشعر والحب والأحلام المجهضة. فقد نزع الأنشوطة عن رقبته ونهض من عمق قبره كمارد من تراب، وأعاد الشعار السخيف مردداً جملة النص الأدبي الحمقاء: "ستحدث العدالة في العالم عندما يشنق جميع العمال والفقراء والبؤساء أنفسهم" مقرراً وضع النص موضع التنفيذ.
وعلى نحو أو آخر -ونحن في معرض حكاية قصيرة لا تعني شيئاً- فقد نجح البؤساء في فهم أنهم لا يملكون سوى الإحساس فقط، إذ أن الحياة ليست سوى إحساس، ولكنها أحاسيس مجردة؛ كشبكة خيوط الجهاز العصبي.
"يا بؤساء العالم انتحروا"
هكذا تسارع انتشار الشعار الجديد في كل محافظات العالم ذات الأسوار السلطوية الفولاذية والماسية في نفس الوقت، وقال بعض المتفائلين من المتنفذين: هكذا أحسنوا إلى أنفسهم بدلاً عن جريمة كنا سنرتكبها. أي ما أسموه قبل زمن بالمليار الذهبي، عبر السعي الدؤوب إلى استبدال قوة الجسد المكون من لحم وعظم ودم وعضلات ومخ بالروبوتات الخاضعة والذكاء الاصطناعي المسيطر عليه؛ ولا مركزية العملات.
لقد حدث ما حدث، وانتحر الملايين من البؤساء في بعض بقاع الأرض، فانطفأت المصابيح، وكانت النتائج كارثية على أصحاب الشوكة. فلقد توقف كل شيء تقريباً. لقد انتهى عصر الحصاد البشري. انهارت العملات الرقمية الوهمية، وتوقفت المشاريع الكبرى والمتوسطة والصغرى، وانحبست صنابير المياه، والأخطر من ذلك أن الأرض بارت، والطواحين هُجرت، والمخابز تعطلت، فبالأكل وحده يحيا الإنسان. وهكذا استشعر الأغنياء في البقاع الأخرى خطر ما يحدث، وتنادوا مجتمعين، ليوقفوا هذه المهزلة:
-من سنحكم؟
-من سنسرق؟
-من سيعمل أعمال هؤلاء القذرين القذرة؟
وكموسيقى مرحة، بدأوا خطة التملق الأكبر. فرفعوا الأجور والمرتبات، واستقطبوا الشاب المتمرد فمنحوه القصور والسيارات الفارهة وحسناء دربوها تدريباً جيداً على إدارة الاحتكار العاطفي. فنحت لهم شعاراً جديداً: (السعادة تولد بعد موت الطموحات).. ورغم أنه شعار صيغ بركاكة وعلى عجل، لكنهم أنفقوا المليارات على البروباغندا، وتم تلخيصه إلى (لا سعادة مع الطموحات)، واضيفت إليه حِكَمٌ أخرى ك(الحياة لحظة).. وتم إلغاء العديد من القوانين المقيدة للانفتاح على الوجود اللازمكاني، ونُصبت الأفعوانيات العملاقة المجانية لضخ الادرينالين. وسمح باقتناء السلاح بدون ترخيص والتشكيلات العصابية. وعلى منقيات المياه ضاعفوا السيريتونين. ونشأت أجهزة للبهجة.
وهكذا بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها.
استمر الوضع هكذا لبضع سنين، ثم تم إلغاء الشعارات، وأحييت القوانين ودمرت الأفعوانات، وفرضت تصاريح مدفوعة على حمل السلاحية، وقننت التشكيلات العصابية. وشُنق الشاب المتمرد بتهمة اغتصاب قاصر.
(تمت)
___
صباح شتائي مضطرب/ ٣١ يناير ٢٠٢٥م