سيد الوكيل - مشهد...

في هذه اللحظة – بالضبط – التي تصورت فيها أنني قادر على كتابة مشهد النهاية كما رأيته .

(المكان .. على رصيف المترو)

(الزمان ..صباح باكر جداً.)

ثلاثة مقاعد خشبية خضراء خاوية.. هكذا تكون الوحدة، ولا شأن لي بالرصيف المقابل.

هناك كشك صغير لعمياء تبيع الحلوى والسجائر، وفتاة تلتصق بجانب الكشك، تضع سماعة التليفون على أذنها وتميل برأسها للأمام قليلاً .

قلت، ربما تحادث صديقة، وتمنحني مؤخرة تنهد في الجيـنـز قليلاً، وشعر لامع السواد، وحقيبة تتدلى على جنبها، ربما تمنحنى أجمل ما فيها، وضع كهذا يصلح لبداية ممتعة، حيث لا تواجهك بعينين موجعتين كعيني هدى كمال فوق سطح المدرسة.

سأكتب المشهد الافتتاحي أمام مرآه تسريحتها، وخزانة ملابسها الداخلية، وضوء خفيف كضرورة فنية.

(فتحتْ له علبة مجوهراتها الصدفية، ونثرت خليطاً من عطورها على جسده هذا ..أبيون، ثم بويزن، والباسو عطر زوجي المفضل، والكوبرا أهدتها لي ابنتي التي تعيش في أمريكا، وأحمر شفاهي لا أغيره.

لمن أنثر عطري في هذا المكان الشاسع!! سأتحلى بكل جواهري، قلائدي، سواراتى وخواتمي الماسية. انظر يا فلاح.. يا جلف.. هذا مشهد لم تكن لتراه في حياتك مهما عشت. سمه (عطر الماس )

..اسم فني وجميل، أعرف أنه لا يناسب مزاجك الوحشي، و لكنى سأعرف كيف أروضك، الآن يمكنك أن تعزف لحنك المزلزل، هذه أصابع شيطان التي تتحسسني، وتقطف جواهري ..قطعة.. قطعة)

ثلاثة مقاعد خضراء ورصيفي هذا الذي أمشيه وأعود.. أمشى بامتداد الرصيف وأعود. المترو سوف يأتي ويدهس وحدتي، لتتناثر جواهرها بين القضبان الحديدية، وكسرات البازلت الأسود.

امرأة منقبة اخترقت رصيفي، مشت بجواري بلا رائحة، أو صوت، وربما بلا جسد، جلستْ في الطرف القصي من المقعد الأخير؛ وكأنها تنتظر شخصاً ما يجلس بجوارها، الآن.. ليس لي هذا المكان، فثمة عينان ترقباني، عينان بلا جسد، أو جسد بلا رائحة، أو صوت.. فلمن تعزف لحنك الآن وأنت على خواء الأرصفة؟.

قدماي تؤلماني في الحذاء الذي اشتريته خصيصاً لوحدة الأرصفة الصباحية.

ثلاث حبات موتيفال دفعة واحدة ولاشيء.

التلفزيون مفتوح بلا صوت أو صورة، مجرد شاشة بيضاء تحدق فيك.

محاولات فاشلة لاستكمال المشهد.

البنت وضعت سماعة التليفون، وأخرجت النقود من حقيبتها، دستها في يد العمياء صاحبة الكشك، ومضت إلى الناحية الأخرى.

كنت أتمنى لو رأيت وجهها ، ولكنى تابعت حقيبتها وهي تتأرجح، وتصطدم بجانب مؤخرتها في رفق، ثم تختفي وراء البنايات.

هكذا تكون الأرصفة، ثمة من يجيئون، ويغادرون ..

لماذا على أن أكون هناك دائماً في انتظار وجوه لا أراها؟ وجوه ليست لي؟ وعيون ترقبني بلا دليل واحد على وجودها؟

لهذا سأدع هاتفي يعمل طوال الليل، وسوف يبدأ كل شيء بسيطا كالمعتاد، سيكون الصوت معدنياً، والجسد بارداً، وعليها هي وحدها أن ترسم ملامحها، إذ لا حاجة للعيون هنا. سيمنحني هذا قدراً من التخفف من الانفعالات، ولن يكون عليّ أن أفكر في شيء حي وصاخب، سوى مجرد صوت يثير معان مجردة، كتلك التي سوف ينتهي بها المشهد.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى