عبد الرحيم جيران - الحريق الذي شب في الرأس

كانا نقيضين، ولم يكن ممكنا أن يكونا كذلك إلا لأنهما حين يلتقيان يبدوان نوتتين لا بد منهما كي تستوي سيمفونية الخلق، مثل وجهي عملة من زجاج، القفا يتداخل مع الوجه، وأشياء أخري، أحدهما يزيد من نحوله طول ينم عن نشوز غير مراقب، بوجه متفاوت التركيب، الأسفل منه مثل ورقة كمشت، بينما الأعلي كان له مروق طولي شبيه بأصبع قدَمٍ يُطلُّ من جورب نتن. والثاني قصير تجذبه الأرض نحوها حتي تكون عيناه الفاسقتان في مستوي ما يحب أن يراه، لوجهه هيئة كرة من الزبدة أخرجت لتوها من المخضة بيد حمقاء. الطويل اسمه "ساعة" والقصير ّدقيقة"، "ساعة" يرتدي ثيابا لها مقاس الحيل، والقصير ما يشبه الثياب بنكهة الأكاذيب، يتباعدان في كل شيء ليكونا متكاملين، ولا أحد يعرف بالضبط من منهما سبق الآخر إلي الدنيا فعلق بها، ولا من منهما كانت له حظوة أن يكون منجذبا إلي مزايا الآخر، أو يقطره خلفه. وحتي يمكن أن ننصف المصادفة التي جمعتهما نقول إنهما اختلفا في كيمياء التكوين ليكونا متماثلين في حساء الحياة، الطويل ذكي، أو هكذا شاء أن يصفه بلسان أمه التي هجرها زوجها ذات شتاء، ذكي بمقدار الفرق الذي يجعل القصير يبدو ضئيل الحجم، وهذا الأخير أبله، من دون الحاجة إلي لسان يمجد بلاهته، أبله بمقدار الفرق الذي يجعل الطويل يبدو معانيا من فائض في القامة. الذكي سمي كذلك لأنه سريع التصديق، ما أن يلتقط خبرا يقاتل الدنيا كلها في سبيل إثبات صحة وقوعه، حتي ولو كان نكتة سمجة خرجت من فم سييء السمعة. أما الأبله فاستحق صفته هذه بفعل شكه الديكارتي في طيبة الناس، بل فيما هو خير يحدث بفعل عدم تنبه فاعله إلي الضرر الذي يمكن أن ينشأ من جرائه، حتي أمه التي لم يعرف لها زوج إذا حدبت عليه رأي في فعلها تقربا منه لمصلحة رصدتها فيه، لكنه يظن- مع ذلك- أنه خُلِق لكي يكون في خدمة الناس، ولذلك لا يتواني عن عرض خدماته علي الجميع من دون أن يقبلها منه أحد. كانا فتيان يتمتعان بالسن التي يبدأ فيها الزمن بالاندفاع نحو الهاوية، لكن من دون أن يكونا يستشعرانها، كان "ساعة" يجيب حين يسأل عن الكيفية التي يقضي بها يومه: "لا يكفيني الوقت كي أنجز كل الأشغال التي أخطط لها"، أما "دقيقة" فيجيب عن السؤال نفسه: "لم أشتغل قط كي أفهم ما يعنيه الفراغ". ويمكن لنا أن نقول إنهما قد هيئا لأن يُفكرا فيما ينبغي أن يكون عليه المرء صالحا، لكن بالنسبة إلي الآخرين، أما هما فيظنان أنهما مجرد خطأ إملائي، لا داعي لإصلاحه، فالوقت مبكر جدا علي فعل ذلك. حالهما من حال الحي الذي نشآ فيه، مكان إذا ما فكرنا في وصفه، فإن ألطف ما يمكن نعته به أنه فطر أحمق نبت حيث كان من المفروض أن ينبت شيء آخر أكثر كرامة، كتلة من الأخشاب التائهة، وقطع من الصفيح تجمعت إلي بعضها علي عجل، ومن دون تروٍ لتصير في نهاية المطاف تأوي إليها مخلوقات لا تصنف ضمن أية ماركة مسجلة. وليس من إجحاف الذوق وصف المكان بكونه زحفا بشريا تم في غير محله، وفي غفلة من القدَر، كان ينبطح بخلائقه فوق ربوة مطلة علي البحر، لا تفصله عنه سوي مسافة لا تتعدي مط الذراعين في حالة الاستيقاظ من النوم، لكنه كان مكانا يعاني من ازدواج اسمي، "ساعة" يسميه "مقبرة الأحياء"، بينما يفضل "دقيقة" أن يسميه "ثغر الصالحين". وربما بدافع من رغبة متنطعة، ومقاضاة البؤس بالإثم، وجدا نفسيهما يندفعان، زوال هذا اليوم (الذي لم يكن سوي شتيمة من الشيطان أطلقها في وجه أتباعه) صوب جهة الحي الجنوبية ناقضيْن عادتهما في التوجه صوب البحر وفاء للملوحة التي تَشِمُ جلديهما ببياضها، فقد ترسخت في ذهنيهما الخرافة التي تدعي بأن البقع الملحية لها مفعولُ إطالة الحياة، بسبب من كونها تغسل أخطاء الأكل. لم يهتما- وهما ينأيان بنفسيهما عن مشتل الآلات البشرية الصدئة- باللغط الذي ساد الحي منذ أمس، عدَّا حدوثه شيئا مسلَّما به، لم يسبق لهما أن جربا معاينته من قبل، لكن لا بد أن يكون كما توقعاه، "ساعة" شبهه بالثقب في جدار غرفته الخشبي، والذي يطل منه علي أخته حين تغير ثيابها، و"دقيقة" رأي فيه خياله علي الجدار الذي تعكسه الشمعة الوحيدة التي تضيء مباركتهما. لا نعرف من منهما بدل الوجهة، فحدد جدول الأعمال لهذا اليوم؟ الذكي أم الأبله ؟ ربما كان أحدهما قد عبر عن اشتهائه التين، فاتخذ الآخر قرار تجريب الغزو علي حقوله التي تبعد عن الحي بمقدار تحول المرئيات إلي سراب . ولم يكن حس الحماقة ينقصهما في هذه الحالة، قبل مغادرة القلعة المحاصرة من قبل أهلها مرا علي الجامع، عللا ذلك بضرورة مباركة الفقيه لهما حتي يحالفهما الحظ، بيد أنه ما إن رآهما- وهو في جِلسته الذئبية- يلجان الباب مترددين، الواحد يدفع الآخر نحوه، مثلما يدفع الجعل كرته، أمسك بعكازه، ورماهما بها، فأطلقا صرخة كاذبة قبل أن يفرا، حين توقفا، ضرب الواحد منهما بكفه كف الآخر إشارة منهما إلي أنهما قد نالا مباركة الفقيه، فعنده- والعهدة علي مؤرخي الحي الثِّقات- كل وقت يلائمه صنف من المباركة، فتكون في الصباح بالسب الفاحش، وفي الزوال برمي العكاز، وفي الغروب بإشهار الوسطي، أما في الليل فبشيء مستنكف ذكره. في الطريق كان "دقيقة" يفكر علنا بما سببه اللغط داخل مقبرة الأحياء من تخيلات تكعيبية حول سينما زيت "ميسطال" المكشوفة، بينما "ساعة" كان يفكر صامتا في نوع الفيلم الذي من الممكن أن تعرضه الشاشة التي ستُنْصَب في الساحة المتربة وسط الحي. لكن لا أحد منهما فكر في المحل الذي ستنقل إليه البهائم التي اعتاد أصحاب العربات تركها هناك، تحت رعاية السماء. ولأنهما لابد أن يتفقا بعد الاختلاف في الرأي، كانا يتجادلان لينتهيا بتقاسم نصفي وجهتي نظرهما، فتكون النتيجة كولاجا يحقق عدالة المقص. هذا ما حدث حين اختلفا حول البراح الذي أشاع خبر السينما المكشوفة، أكان راجلا أم راكبا دراجته التي لها من المقود النصفُ فقط؟ وبفعل التخفيف من احتدام التكذيب المتبادل بينهما- وبموجب فضيلة التوافق المِقَصِّيِّ- صار البراح راكبا وراجلا في الآن نفسه، وصار مقود الدراجة كله غير موجود. لما وجدا نفسيهما وجها لوجه أمام الضيعة، وعلي مقربة من ثمرات التين العالقة بأغصانها، لم يشرعا مباشرة في عملية الاقتحام، فعلا ذلك لا بدافع التروي، وإنما بدافع أن يُضلِّلا عَيْنًا متخيلة يريانها، بينما هي لا تراهما، ولا يريدان أن ينبهاها. اقتعدا مثل حكيمين بوذيين مكانا وسط حقل الذرة المجاور، كتفا جنب كتف، وقبل أن يأخذهما التفكير في خطة الاقتحام رأيا فوقهما وسط صفحة السماء خيطيْ دخان أبيضين لطائرة كانت تنزلق نحو جهة المطار، قال "دقيقة": "الحمد لله أننا هنا، فوق الأرض، لا شك أن من يركبها يكاد يموت من الرعب"، فرد "ساعة": "تصور لو أن عطبا لحق بها، كيف يصلون إليها لقطرها بغاية إصلاحها"، ثم ما لبثا أن قالا معا: "لا يهم، ما دامت تبعد عن البراريك". أعقب جدالهما حول ركمجة الطائرة صمتٌ مطبق تفرغا فيه إلي التفكير في الخطة الملائمة للاقتحام من دون أضرار جانبية، بدا استغراقهما الذهني هذا من خلال حركة يديهما، "دقيقة" كان يعبث بورق الذرة قاطفا إياها، و"ساعة" كان ينكش التراب بسويق طري لا يلبث أن ينثني، والحال أنه لم يكن هناك من داع لمكابدة هذا العناء، لأن هناك خطة واحدة يسلكها أي لص، لا ثاني لها، قد يتنوع الشكل، لكن الجوهر واحد: استطلاع المكان أولا قبل النفاذ إليه، وثانيا اختراق الحاجز الذي يمنع من دخوله. ولأن كل إطالة في التفكير تضر بسمعة بصيرتهما بادر "دقيقة" بالقول: "لقد نسينا شيئا هاما، ألأكياس التي ينبغي أن نضع فيها التين، ينبغي البحث عن القديم منها في الأنحاء"، لم تخن البداهة الواثقة من نفسها "ساعة"، لذا أعطي لرده صبغة بديل إصلاحي:"لنطلب ذلك من صاحب الضيعة، فلا شك أن لديه من الأكياس ما يكفي". وبموجب عادتهما في تسوية الخلافات حاولا اقتسام وجهتي نظرهما إلي نصفين، ثم الجمع بينهما، لكن التوفيق لم يكن في جانبهما هذه المرة. حدث ذلك، لا لأنهما فشلا في أن يكونا كما هما، بل لأن الواحد منهما كان يُخفي عن الآخر ما يشعر به، الإحساس بأنهما لم يكونا في حجم مسئولية ما خططا له، لم تخنهما الشجاعة، بل الحظ، لأنه حظ فقط. ففي اللحظة العزباء التي كان كل واحد منهما يبحث فيها عن مخرج مشرف للانسحاب سمعا خشخشة حذرة تتقدم في حقل الذرة، ركبهما الخوف، كان من المفروض أن يشرئب "ساعة" بعنقه قليلا، ما فوق سويقات الذرة، ليستطلع جهة الصوت، لكنه لم يفعل، أما "دقيقة" فألصق أذنه بالأرض محولا إياها إلي آلة للكشف عن قطع المعادن. سكنت الخشخشة، ثم أعقبها صوت امرأة ورجل، تجرأ "دقيقة"، فارتفع بجسده مثل ابن عرس إلي ما فوق سويقات الذرة ماسحا المكان بعينيه، ثم عاد إلي مخبئه زاما فمه لئلا ينفلت منه الضحك، أطل "ساعة" بدوره- بعد أن التمس من حركة "دقيقة" العون- فرأي مشهدا، زوجة جالح السكاكين تجر خلفها رجلا أعمي، عاد إلي مخبئه، تبادلا نظرات نصف مريبة، لم يسأل الواحد منهما الآخر عمن يكون الرجل الأعمي، فلم يسبق لهما أن رأياه، وإنما لماذا كنت المرأة هي "عيوشة" بالضبط؟ فهي لا تصنف ضمن محظيات الحي، ليست من صنف "السويطة" أو "نقرية" اللتين تفخران بحجم عجيزتيهما، وتقسمان بهما، عند كل حادث. أطلا مرة أخري، فلم يريا عيوشة والأعمي، لكن بدت لهما سيقان الذرة تتحرك بعنف فعرفا أن التراب قد شرع في الاختلاط بالعرق، نظر الواحد منهما إلي الآخر، وكان ذلك كافيا لأن يتواطآ علي إعاقة استكمال تحرير العفريت من قمقمه، أخذ يرميان بالحجر جهة اهتزاز سيقان الذرة وعرانيسها، فسكنت الحركة، ثم أعقبتها صرخة ألم، أدركا بعدها أن الهدف قد أصيب، فأطلقا سيقانهما للريح، وهما في كامل النشوة، فقد كانا راضيين ظنا منهما أنهما قد خدما الشيطان بفعلتهما، لكن الشيطان كان غاضبا منهما، من دون أن يدركا ذلك، لأنهما أفسدا عليه طقسه الذي يجدد به ولاءه للبشر. في طريق العودة نحو الحي اختلفا في من صرخ من الألم، أعيوشة أم الأعمي؟ الطويل أصر علي أن عيوشة هي من فعلت، بينما رأي القصير أن الأعمي هو من صرخ، وحتي تُصان كرامة كل منهما، انتهيا إلي الاتفاق علي أن يكون الأعمي هو من أصيب بالحجر، وتكون عيوشة هي من تألمت بدلا منه. سيتطور الجدال فيما بعد إلي من منهما كان حجره هو الفاعل، ولا شك أن الاتفاق يقتضي أن أحدهما هو من اختار الحجر- القذيفة والآخر هو من رمي به. دخلا إلي الحيتبإحساس من لم يكن ينتظر أية مفاجأة، الشمس تبتعد مائلة تاركة لليل مهام التستر علي نواياها التي لفحت بها الرؤوس، والنظرات المريبة، والخلايا، والأحشاء السفلية، غمرهما غبش خفيف وهما يتجاوزان المدخل متقدميْن نحو جوف الحي، لم يلحظا أي شيء يختلفان حوله كي يتفقا، السكون يخيم علي الزقاق الرئيس الذي يُقسِّم الحي إلي منطقتين، والحاضن لنهر القاذورات الذي لا يكف عن الجريان معطرا المكان برائحة بطون تُملأ بما اتفق من الطعام، حين مرا بفران "ملفاوي" لم يلمحا هناك لوح الضامة يتحلق حوله الرجال، كما خلا باب الدكان الوحيد بالحي من متسقطي الأخبار، كان هناك فقط "رميشة" الأصلع بداخله ينقي ماسورة السبسي من بقايا القطران المتجمع بها، وبين الفينة واٍلأخري يتفقد قبعته الملونة، حتي الأطفال اختفوا، واختفت معهم شيطنتهم، ووسامة ثيابهم المرممة، لم يعجزهم إدراك السبب، من حماقات أهاليهما أن يُسبِّقوا العيد علي موعده، ما إن فطنا لذلك يمما وجههما صوب الساحة المتربة، هناك وجدوا الجميع، وكأنهم في حالة حشر مؤقت، الرجال، والنساء، والأطفال، وحتي كلابهم البلهاء، كانوا في حالة هرج ومرج، يتنازعون حول الأمكنة حاملين الحصائر، وفي مقدمة الساحة بدا مستخدمو شركة "ميسطال" منهمكين في نصب الشاشة البيضاء في العراء، وخلفهم سيارة شحن متوسطة علي جانبها صورة امرأة لا تعرف كيف تقمع ابتسامتها المتكلفة، وهي ترفع بيد متحمسة قنينة الزيت، في خلف الحشد اقتعد "ساعة" حجرا لم نعرف كيف حصل عليه، أما دقيقة فظل واقفا يتأمل المشهد في هيئة من يسند جذعه إلي حائط لا يري، فجأة ظهرت سيارة الدرك، ارتعب لها الجميع، ولم يتعد ظنهم أنها في إحدي جولاتها العادية تتفقد المكان فحسب، أما "ساعة" فكان له رأي آخر، قال مخاطبا دقيقة: "لا شك أنها تتعقب عجيزة "صوبرانو""، فرد دقيقة: "إذا ما قبض عليه سيُحرم الحواريون من وحي الماحية هذا
المساء"، أما الباقون فلم يكن لديهم الوقت الكافي لبناء احتمالات أخري لمرور سيارة الدرك، السينما كانت لها الأولوية، بدا ذلك من الحركة التي نشطت في مقدمة الحشد، جاءت لجنة لم يعرف أحد من نصبها، كانت مكونة من أعيان الحي: المقدم، والمرشح (بائع الفحم)، ومعاونه (الكوَّاء)، والسمسار، والعريفة، وضعوا كراسي حملتها عربة مجهولة الهوية في المقدمة بعد أن أرغموا الحشد علي التراجع إلي الخلف، قسموا الساحة أإلي منطقتين: واحدة خاصة بالنساء والأخري بالرجال، ولما لم يستجب لهم أي أحد تركوا الفوضي تتكفل بذاتها، واكتفوا بأن وضعوا كرسيا للفقيه في المقدمة حتي يستطيع مباركة الحفل بتلاوة بعض الآيات، وكان من جليل عمل اللجنة أن أبعدت الكلاب عن الساحة، فعلت ذلك لئلا يُدنس المكان، ما أن عم الظلام المكان، وأنهي الفقيه عمله بأقل ما يمكن من السرعة، ناورت شاحنة النقل حتي استقرت خلف الحشد، فتح غطاء في جانبها، ولم تمر دقائق حتي ضخ منها ضوء في هيئة حزمة طولية، وبدا علي الشاشة إشهارٌ يمجد المفعول السحري لزيت ميسطال، أعقبه تصفيق، وبعض صرخات إعجاب، فعل الجمع ذلك ظنا منه أن الفيلم قد بدأ، قال "ساعة"، وهو يتملي المرأة الجميلة التي تصب الزيت سائلا ذهبيا في آنية معدنية تلمع: "لن أتزوج إلا امرأة زعفرانية مثل هذه"، فرد "دقيقة":"رائحتها كريهة، ألم تشمها؟"، فرد "ساعة":"أنا أشم رائحتك فقط"، لم يعقب "دقيقة" لأن نشرة الأخبار التي تلت الإشهار أربكت أريحية بديهته، وكان عليه أن يغتاظ منها لأنها أغفلت عدم ذكر أية مأثرة من مآثر "مقبرة الأحياء"، ولِأنها لمْ تعرض صورة "عيوشة" وهي تجر الأعمي لتجعله ينبطح وسط حقل الذرة، أما "دقيقة" فجعلته نشرة الأخبار مورطا في مخيلته الواسعة التي أبت إلا أن تري في الصور المعروضة شيئا سيحدث، لا شيئا حدث بالفعل، وقال في نفسه إن من فكَّر فيها عراف كبير، لكن ما لبث أن لكز كل واحد منهما الآخر لينبهه إلي أن الفيلم قد بدأ، كانت الصور تتابع بالأبيض والأسود، البطل كان يعتمر قبعة الكاوبوي، ربط حصانه إلي عمود، ثم دلف بناء سيخمن "ساعة" بأنه مكان يبيت فيه الغرباء، في الداخل استقبله رجل وراء محسب طويل من الخشب، ووراء ظهره لوح علقت به مفاتيح، ثم تكفلت امرأة بأن قادته إلي درج صعداه معا، راقت لِ"دقيقة" دقات كعبي حذاء البطل، لم يكن لا "ساعة" ولا "دقيقة" يفهمان كلام المرأة (وهي تشرح للبطل بلغة فرنسية منقوعة في محلول الإغراء التفاصيلَ المتعلقة بالغرفة المخصصة له)؛ ومع ذلك حاول كل منهما أن يوضح للآخر ما تقوله، في تلك الأثناء ستثار ضجة أمام الساحة المقابلة للفندق، احتلت المكان عصابة من اللصوص معتلية الأحصنة بوجوه قاسية كأنها قطع أثرية لونها الغبار، ما إن رآهم الناس اختفوا، نزل الرجال من فوق صهواتهم، وتوزعوا في المكان مصوبين بنادقهم إلي الفندق، بينما اقتحم زعيمهم الملتحي باب الفندق، لم تمض سوي لحظات حتي بدأ الرصاص يلعلع متقاطعا وكأنه يحيي بعضه البعض، ما أن رأي الحشد الرصاص فرَّ أغلبه صوب جهات متفرقة، وكذلك فعل "دقيقة" قبل أن يلحق به "ساعة"، ثم توقف الفيلم، حتي تتاح لمن هو معني بتنظيم الحفل فرصة إقناع الناس بالعودة إلي أماكنهم، ولم ينتظم الحشد مرة أخري أمام الشاشة إلا بعد أخذ ورد، وما كان ليقتنع الجميع بأن لا مكروهَ سيصيب أحدا لولا أن قيل لهم إن بالشاشة حاجزا لا يُري يمنع الرصاص من اختراقه، أما حجة كون العراك مجرد صور تتحرك فلم تكن لها أية جدوي، ما أن عاد الحشد إلي وضعه المطمئن، استأنفت الصور حركتها علي الشاشة، كان البطل قد انتصر علي العصابة، وامتطي حصانه متعقبا إياها، في هذه اللحظة بالذات انتفض الحشد هلعا، لم يكن لأحداث الفيلم دخل في ذلك، بل شيء ما أكثر هولا، وأكثر واقعية، ومن دون حاجة إلي الاقتناع بأنه حادث بالفعل، كان لهيب النيران يتسامق ملتهما البراريك، جري الرجال تتبعهم النساء نحو مساكنهم، لكن من دون القدرة علي الوصول إليها، واكتفي الجميع بالولولة، ولم يكن أمام منظمي الحفل سوي المغادرة فورا بعد أن جمعوا أغراضهم كما اتفق، أما "ساعة" فقد كان يجادل ّدقيقة" في من يكون أشعل النار، كان الأول يظن أن "السمسار" هو من فعل ذلك، لا شك أنه احتسي الماحية، ونام من دون أن يطفئ الشمعة، أما "ساعة" فكان رأيه أن المخزن هو من فعل ذلك، لأن الخلائق الصدئة تسيء إلي البحر، كانت البراريك تحترق، وهما يكابدان من أجل إثبات من المصيب منهما، وفي نهاية المطاف- وكما نعلم- اتفقا- بعد أن تحول كل شيء إلي رماد- علي كون المخزن هو من ابتدع الفكرة، والسمسار نفذ المهمة. وصلا إلي هذه المنطقة الوسطي بعد أن قررا إنقاذ نفسيهما من ألاعيب كانت تدور في رأسيهما بفعل شراب الماحية التي جلباها معهما إلي حقل الذرة، ولم يتح لهما من الوقت ما يسمح لهما بأن يصححا كل شيء، وكل ما استطاعا فعلَه أن نهضا من مكانهما، الواحد يتكئ علي الآخر سائلا إياه: أي طريق نسلك إلي الحي؟



المغرب

* أخبار الأدب يوم 15 - 08 - 2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى