صديقة علي - نضال.. قصة قصيرة

وراءَ جبالِ الزيتونِ، غيوم رماديّة يؤطرُ قممَها شريطٌ ذهبيٌّ ملتهبٌ بلا دخانٍ، وزقزقةُ العصافير تعلنُ عن وجودها وعنْ صباحِ شمسهُ مؤجلةٌ إلى أن تنقشعَ الغيومُ أو تعتليها، وكان البحر يختبئ َبعيدًا عنَّا خلفَ تلالٍ صفراءٍ قد هدَّها العطشُ،
وحيدًا كنتُ مع كلبي، الذي راحَ كالبرق يلهثُ قاصدًا حجلةً أسقطَتها خلف ساقيةٍ، الحجلُ يلبد بمكانٍ ما خشيةً، وأنا بمكمَني أفقدُ صبري منهُ، والطبيعة تكافئني بأرنبٍ بريّ ، يندس بين أعشاب ملتفة يحيط بها القصب، وأنا بانتظار خروجهِ أثّبت نظري وفوهة بندقيتي عليه، أمنحهُ دقائقَ قليلة للوداعِ، تستفزني ُ شجيراتُ الرمانِ بقناديلهِا المتألقة، كنتُ أحبسُ أنفاسي و رجلي كي لا تصدرَ الأوراقُ خشخشةً وتهربُ الصيدةُ ، طلقةُ نشازٍ تمزقُ تناغمَ الموسيقى في الطبيعةِ ، ودمٌ يتناثرُ من بعيدٍ أو هكذا خيِّل لي، يعود كلبي بسرعةٍ وبفمهِ حجلةٌ يرميها بوجهي وينبحُ بضراوةٍ وهيجانٍ،
- وششش لم هذا الغضبُ؟
ينبحُ أكثر وأكثرَ أشبكُ الحجلةَ المقطَّرة دمًا بخطَّافات مأزري، أتبعهُ إلى مكمن الأرنبِ حيث مرمى نيراني، يتناهى إلى مسمعي أنينًا آدميًا همهمة تخترق قلبي الواجفَ، اقتربتُ أكثر بخطواتٍ مذعورةٍ ، كان الممرُ ضيقًا بين أشواكِ البرسيمِ ونهنهةٍ تحيي بقلبيّ نبتَ الذنبُ الذي كنت أميتهُ ، فراشٌ من أغصانِ الكينا ، بأوراق خضراءَ مكدسةٍ إنخماصها يشير إلى من غادرها للحظات قليلة، جذعَ قصير لشجرة ملساء يعترض المكان كوسادة، وجذعٌ آخر تحتَ الفراش الممهد غطَّتها الطحالبُ والدماء، أذهل إذ أرى الأرنب يجري بعيدًاِ، أتابع خط الدم يسبقني كلبي إلى دغل من الشجيرات الكثيفة على حافة النهر، لأجد يافعا مقعي بين سيقان القصب، أجثو أمامهُ وعيناه السوداوتانِ رطبتان تنضحانِ ألمًا وذعرًا، وفمهُ الوردي يصرخُ باآه محبوسة تزلزلني، تعيدني إلى تأنيب ضميري، كانت فردةُ حذائه الرياضي قد تضمَّخت بالدمِ أخلعُها بقوةٍ عن قدمِه وأضمِّد جراحهُ بوشاحي والكلبُ يدور حولهُ يتشممه اعتذارًا ويوقفُ نباحَه كاتمًا سرَّ خطيئتي كل ذلكَ مرَّ بشريطٍ من الوقت المشتعلِ ، يحملُ الكلبُ فردةَ الحذاء المثقوبةِ فيتمرغُ وجهه بالأحمرِ وأحمل الفتى بين ذراعيَّ وأهرعُ إلى سيارتي وبندقيتي تضربُ في ظهري ، ويسبقني كلبي إلى السيارةِ المركونةِ إلى جانب الساقيةِ .
أرمي فردة الحذاءِ والحجلةِ في صندوق السيارةِ بعد أن أودعتُ الفتى بأنينهِ في المقعدِ الأمامي،
تحتَ قدميَّ يجتمعُ الدم اللزجُ، وعيناي تراقبانِ وجههُ تزدادُ سرعتي مع تخافتِ صوتِه
-أرجوك أصرخْ. قل ما اسمكْ.
يشيحُ بوجههِ المتقلصِ عني مطبقا أسنانهِ، كاتمًا أنينهُ، كمن يخشى أن تفلت منه كلمةٌ لا يريدها حتى الآهات توقفَت. والكلب يمدُّ رأسهُ من الخلفِ يلحسُ بلسانه رأسَ المصابِ الذي لا يبدي أية انفعالٍ بل يستسلمُ له بوداعةٍ.
- كنَّا برحلة صيدٍ وبالخطأِ أطلق النَّار على رجلهِ. قلت هذا للممرضِ الذي استقبَلنا وأنا أتوسَّل بنظراتي للصبيِّ كي يكررَّ ما قلتهُ.
حيرتني ملامحه الهادئة، وكأنه مرتاح في سريرِ المشفى، يراقبُ خطواتي القلقةَ صامتا يكادُ صمتهُ أن يمزقني، دخلَ الشرطيُ يراقبُ أوراقي ويتمتمُ:
رخصةُ صيدٍ .. رخصةُ حملِ سلاحٍ ..أممم ..
ويتجهُ الى الصبيِ، ويشيرُ إليَّ بسبابتهِ:
- ما القرابة بينك وبين الرجل؟»
يتمتمُ الصبيُّ بصوتٍ واهنٍ:
- أبي؟
- ما اسمك؟
بصوتٍ مختنقٍ بالدَّمع أجيبُ بسرعة ٍ
- نضال…...، اسمه نضال
ويكررُ الشابُ ورائي وهو يتأمَّلني ببرودٍ قرأت ُفي عينيهِ ابتسامةً خفيةً:
-اسمي…. نضال
يتابعُ الشرطيُّ تسجيل أقوالِ المصابِ ويمر ُّبنظرة ٍعلى ثيابِه الرثةِ وعلى وجهي.
ما الذي حدثَ معكَ يا نضالُ؟
كررَّ الشابُ بثقةٍ ما قلتهُ للممرضِ، مسحتُ بيدي على وجههِ امتنانًا، وما أن خرجَ الشرطيُّ، حتَّى يممتُ وجهي النافذةَ مديرًا ظهري لنظراتِ التساؤل في وجههِ وكانت عيناي تلومَاني لانقطاعي عن ريِّهما فأطلقتُ شلَّالاتها التي لم أستطعْ حبسَها عن مدى نظرهِ.
بصوتٍ مخشوشنٍ سألنِي:
- لمَاذا تبكي؟ .. ….
التفتُّ إليهِ أحدِّقُ في عينيهِ، أدهشُ لأنني لم ألمحْ فيهما ومضةَ لومٍ ولا تأنيبٍ. تمنيتُ أن يصرخَ بوجهي أن يفصِحَ لي عن سرِّه ِ.
يعودُ الشرطي إليَّ وبصوتٍ مرتابٍ يقولُ لي وهو يلوِّحُ ببطاقةِ هويتي:
- سنحتفظُ بهذه إلى أن تحضرَ دفترَ العائلةِ.
أكرِّرُ وراءَه بحرقةٍ:
دفترَ العائلة! !.. نعم .. نعم سأحضِره.
على شرفة بيتي البحريةِ، وفوق منضدةٍ رماديةِ الملح، أودعَ حقيبةً جلدُها مشققٌ بالذكريات .. أخرج منها أوراقًا .. تتناثرُ أمامي:
حضر وجه أبني يصرخُ بوجهي مستفسِرًا غيرَ لائمٍ،
- بابا أرجوك هل ماتَت أمّي؟
ليجبيهُ نشيجي فيصمتَ إلى الأبدِ.
من خلف ستار الدمع أقرأ بدفتر العائلة:
الإسمُ: نضال
مكان وتاريخِ الولادةِ .. أتابع التقليبَ بدفترِ العائلةِ وغشاءُ الدَّمع يحجبُ كلَّ شيءٍ .
وتخْنِقُني الذاكرة، وجهها، صوتها كل ما في تلك الأيام حاضر الآن وبقوة الألم:
-ماذا سنسمّيه؟
- نضال
يا لأسمائكَ القاسيةَ! لم نضال؟
- ظننتكِ ستخمنينَ السببَ ..ببساطةٍ لأنه لم يأتِ إلينا بسهولة ٍ..
- الحمد لله أنَّه أتى .. دعنا نسميهِ ورد.
أجيبها بحزم:
- نضال وكفى ..
مركب الذكرى لا يتوقف تتقاذفني أمواجه لعشرات السنين أشعر بالدوار:
بضحكتها الوردية كانت توبخه:
توقف عن التكلمِ مع والدكَ .. هو سائقٌ غرٌّ
أضحكُ من تعبيرِها
- غرِ وتصّرين على مرافقتهِ؟
كان لضحكتها لون الربيع:
- لأنه قدَري .. ولا مفر منهٍ.
كان الطريق ضيقًا محاذيًا لسفحٍ صخريٍ ينتهي إلى البحرِ. وكنَّا مأخوذين بجمالِ الطبيعةِ وبصخبِ الموسيقى التي يحبُّها نضال .. وكان المنعطفُ شديد الانحدارِ ودهشةُ نضالٍ عارمةٌ برؤيةِ الرّمانِ على أمِّه .
- أبي انظر انظر، أهكذا يكونُ الرُّمان كمصابيحَ معلقةٍ؟
ثمَّ أُطفأِت كلَّ الأنوار ِوضجيجُ التحطيمِ يملأ الكونَ، وكان البحرُ قريبًا جدًا من حطامِنا، أفيقُ على هسيسِه وصوتُ نضالَ الملتاعُ _ أبي أرجوكَ هل ماتتْ أمَّي؟
بغشاوةِ الدَّمع أعودُ لدفتر العائلة
تاريخُ الزواجِ.
خلت حفلةُ العرسِ من الأهلِ واقتصرت على الأصدقاءِ، كان الرفضُ لحبنا أقوى من فرحةِ أمِّي كي ترى وحيدها عريسًا. وكان والد حبيبتي شديد العداوة ًلخيارِ ابنته ِالمنافي للأعرافِ
- ما سبقَ لفتاةٍ من عائلتنا العريقةِ أن خرجتْ عن دينها كُرمى لرجلٍ أرعنٍ. وكان يشيرُ إليَّ بيدِه المتوعدةِ.
حتَّى مراسمُ الدَّفن خلتْ من أهلِنا فقد ماتَ الرافضونَ مورثين القطيعةَ لمن بقيَ ونحنُ بتقديرهم قد مُتنا منذُ سنينٍ.
أقلبُ بدفترِ العائلةِ أوراقاً صفراءً محا خطوطها الدمعُ:
بالأحمرِ توفيَّ بتاريخ ..
-أه يا ولدي كنتُ أظنُّك سليمًا معافى...، وحدكَ من خلا وجههُ من الكدماتِ وحدك من كان صوتُه نقيًا بشفتيك اللتين غادرَهما الدَّم، بعينيك البريئتين .. بصوتك الملتاع: هل ماتتْ أمِّي ..؟
وكان هذا آخرُ ما سمعتهُ بصوتهِ الحَّي، الّذي مازال يملأ فراغ البيت،
بصعوبة بالغة انتشلت نفسي من خضم الذكرى المريرة، وعدتُ لأستعيدَ هويتي وأطمئنَ على ضحيتي.
بلا مبالاة قلَّب الشرطي بين يديهِ دفترَ العائلةِ الرطبِ، حدَّق مليَّا فيه وكان شارد الذهن، ثم جحظت عيناه في وجهي، وكنت أتأمله باستسلام منتظرًا حكمه، ..أسبل يده القابضة على الدفتر وأطرق بالأرض مركزا بصره بقدمه التي تضرب الأرض بتواتر سريع ثم رفع رأسه ووجهه المحمرَّ عابقًا بالشفقةِ ، مدَّ يده بهويتي ودفتر عائلتي ثم غمغم :
- اعتن به جيدًا.
أومأتُ برأسي موافقا شاكرًا وخرجتُ أتنفسُ النجاة.
في مطعمٍ بحريٍ جلستُ صامتًا أمام نضال أفكر ُبطريقةٍ أتحايلُ بها عليه كي يفضيْ لي بسرِّه، ويقول لي إلى أين يريدنيْ أن أعيدهُ، كنَّا بانتظار الطعامِ الذي حرصت أن أطلبه وفقًا لما يشتهيه، لكنَّه كان يجيبُ بخجلٍ " كما تريدُ"، وراحَ يتابع الموجَ بنهمٍ غريبٍ، لزمتُ الصمتَ طويلًا لأستفزَّ صوتَه، عَلي اسمعهُ.
كان يلتهمُ الفرّوجَ المشوي والبطاطا المقليةَ وكأنَّه جائع منذ عصورٍ قديمة، يشرب المياهَ الغازيةَ بقرقرة عاليةٍ، أخذَ يتصرفُ بحريةٍ وتلقائيةٍ، وكنت أرمقهُ بابتسامةٍ مخفيةٍ، ولما انتهى قام لوحدهِ دون أن ينتظر مساعدتي واتَّجه صوبَ الحمَّامات، عاد بوجهٍ مشرقٍ يعرجُ على رجلهِ المضمَّدة بخفةٍ ونشاطٍ سحبَ كرسيَّه وجلسَ بثقةٍ فاردًا كتفيهِ، وحدَّق بعيني وبلا مقدماتٍ وأنا الذي أنتظر ُمنه الأجوبةَ، أطلقَ سؤالهُ:
- لم كنت تبكِي؟
- ماذا؟ .. آه كنتُ أبكي لأجلكَ.
- أنتَ تكذبُ.
تمالكت أعصابي وبلطف شديد قلت:
- من غير اللائق أن يقول هذا فتى مثلك لرجل مثلي.
ببراءة سأل:
- بالرغم من أنه يكذب!؟
- وكيف علمت بأنني أكذب.
- لأنَّ الرجالَ لا يبكون من أجلِ صبيٍ غريبٍ.
لمحتُ خلفَ صوتهِ المراهقِ رجولةً مخفيةً، عدلّت من أسلوبي المتهاونِ معه، وعدلِت عن معاقبةِ صمتِه بالصمتِ.
- ياصديقي، نعم أنا أكذبُ.
أجابَ بمكرٍ:
- لستُ صديقكَ.
- إذن؟ بم تريديني أن أناديكَ؟ ما اسمك؟
- "إبني ".. قل لي يا ابني.
بحنان شعرت أنه يلتمسه سألت:
- طيبْ أخبرني يا بني، لم كنتَ تنامُ في البريةِ .
- لماذا برأيكَ ينامُ صبي ٌمثلي بالبريةِ؟
تسلحتُ بالصبرِ أكثرَ عليه وقلتُ يجب أن أراجعَ كلَّ ما سأقولهُ له:
- لأنّه مطاردٌ، وأريد أن أعرفَ من يطاردكَ.
- وهل ستحميني إن بحتُ لكَ بجرمي لا لا سأقصُ عليكَ قبل أن تعدني بذلكَ أريدُ سيجارةً.
ابتسمتُ وأنا أقدِّمُ له علبةَ سجائري بكل احترامٍ وفلتتْ مني كلمةٌ
- ألستَ صغيرًا على السجائرِ؟
- هي صغيرةٌ عليّ.
- تتكلمُ... كالكبار.
- كان والدي كبيرًا وكان أديبًا ويأخذني معهُ إلى مجالسِ الكبار ِ
-وأين هو؟
- مات َ.
أو تعلَم بأنَّني لم أحزن على شيءٍ بذاك الحريقِ اللذيذِ إلَّا على مكتبتهِ،
- هل ستقص عليَّ قصةَ الحريقِ اللذيذ ِ…؟
- طبعًا أظنك شممتَ رائحةَ دخانه، وأنت تجوب أراضي قريتنا، أدخنة الحرائق لا تخفى على أحد. وددتُ أن أخبره بأنني لم أشم رائحة حرائقهم فقد كنت مأخوذاً بحرائق الغيوم.
احتضنُ ثياب ابني كما احتضنتُ كفنَه بوجعِ أبٍ مفجوعٍ، متجاهلًا البركانَ الذي يجيشُ بداخلي أناولِها لهذا الغريبِ، المبتهجِ بالحمامِ، راح يقفزُ برشاقةٍ في البيتِ، يدحَرُ أشباحهُ، ينقّل نظره بين صورهم على الجدران.
صيدٌ ثمين هو ردُّ لي روحي، أرنو إلى عينيه وقد زالَ المكرُ منهُما واستكان فيهما حزن بريء ينقِّل نظره بين كأسِ الشاي الدافئِ في يده وبين البحرِ ليعودَ مرةً أخرى إلى ثيابِ النومِ التي يرتديها ظننتهُ فرحًا بها يتأملها كطفلٍ مدهوشٍ بثيابِ العيدِ.
- هذه ثياب نضال، طبعاً أنت حزين لأجله، يمكنني خلعها وارتداء ملابسي حين تجف.
- لا عليك سأعتاد على ذلك.
- أمّي أيضاً ألبست صاحبِ المدجنة ثياب النوم التي تخص والدي. قال بانكسار مرير.
- ثمَّ؟
- صباحاً رأيتهما يتسمّمانِ القهوةَ. كانت ترتدي ثوبَ نومٍ ورديٍ لم أرها ترديه من قبل.
أكملَ دون أن يلتفتَ لي محدقًا بالموجِ وحدقتيهِ على اتَّساعهما غارقتينِ في ذهولٍ
- لم أقتربْ من البحرِ من قبلُ، وعدني أبي بأنْ أكملَ تعليمي بالمدينةِ وكنت انتظرُ ذلك لأجل البحر.
وفجأةً ينترُ رأسه صوبي، مستفسرًا:
- هل مات نضال غرقًا؟
- لا حادثُ سيارة ٍ.
- وأنتَ كنتَ السائقَ؟
- نعم، كيف عرفت؟
- من الندم المرسوم على جبينك، وماتتْ أمه معه؟
- أجل
- كنتَ تحبِّها
- نعم
- لأنَّك مغفلٌ. النساءُ يغدرنَ بكَ. لو متُّ أنتَ لما حزنتْ لأجلكَ يومًا.
من قال لك هذا؟ ألست صغيراً على الحكمة التافهة هذه.
- جدتي تقول أن النساء لا يعرفن الوفاء.
انتابتني رغبة عارمة بصفعه ورحت أكبت غضبي:
- أنتَ وجدتك على خطأ. مدَّ لي راحتكَ، انظر إلى أصابعكَ، هل كلّها متساويةٌ؟
ثم أن جدتك من النساء.
- جدتي قديسة.
قالها بغضب ثم نظر إلى كفه الممدودة وتمتم:
- أراها متساوية.
- وماذا حدث بعدَ أنْ رأيتَهما؟
- خجلتُ، شعرت بالعار، خفتُ أن يرياني وعدتُ مقهورًا إلى قبر أبي استشيره. ثم ّ تابعت سيري إلى عملي حيث كنت حارساً ليلياً للمدجنةِ. ذات صباحٍ كلَّمني عاملُ المدجنةِ وكان بعمرِ أبي وكان يغمرني بحنانه: والدك كان محترمًا قل لأمك أن تحفظَ سمعتَك.
ومنذ ذلكَ الوقتِ علمت بأنّ الناس تتناول أمي بالسوء، وتعلم بفضيحتنا قلت لها مرة أن تتزوجَه فصفعتنِي،
ومن ثمَ هو صار يضربُني كلَّما اختلى بي، ثم أنه طردَ العاملُ الذي نبهني للأمر والذي كان قد أفهمَني بأنَّ كل ثروةِ صاحبِ المدجنةِ تعودُ لزوجاتهِ الأربع.
- كان لديّ دراجةٌ ناريةٌ يعلمانِ بقدومي من شخيرِها. أفرغت خزَّانها من الوقودِ وأودعتهُ تحت درجِ بيتنا، كان طابقًا واحدًا ..ككلِّ بيوتِ قريتنا .هل رأيتَها؟
- لا ...كنت في المقلبِ الآخرِ من الجبلِ.
- عدت مشيًا على الأقدامِ كان الليلُ شديدُ الظلمةِ مخيفًا أدرتُ المفتاحَ، كان موصدًا من الدَّاخل تسلقتُ الجدارِ إلى السطحِ، ونزلت إلى الدرج حملت وعاءَ الوقود وربطته إلى حبلٍ، وعدت به إلى السطحِ دليته من فوق إلى أن استقر الوعاء على الأرض، ثم قفزت إلى الأرضِ وتسلقت إلى نافذةِ الحمام الصغيرة قفزت إلى البيت ثم سحبتُه، سكبتُ كلَّ الوقود تحتَ البابِ الذي سمعتُ فحيحها من ورائهِ، وكان هو يشخرُ كالخنزيرِ.
من نافذةِ الحمامِ التي كنت أجلسُ فيها القرفصاءَ رحت أرميْ أعوادَ الثُّقاب، وأراقبُ خيط النارِ المتَّجه إليهما، ثم هربتُ يلاحقني عواء الاستغاثة. فكرت أن ألجأَ إلى المدجنةِ لكن خفت أن يكون أحدٌ ما قد رآني فيفتضحَ أمري.
ثم من فوقِ جبلِ الزيتونِ، رحت أستمتع بنشوةِ بالحريقِ اللذيذ. مضى يوم كامل لم أشعر فيه سوى بالجوع والعطش ثم تجيء طلقتكَ لتقضيَ على جوعي، وعلى عطشي.
ذهولي غيّب صوته عني، خناجر قسوتِه تغز بقلبي، صمتَ برهةً ثم ضحكَ كالمجنون وباستهتارٍ مقيتٍ، حاولتُ أن أصرخَ به عجزت الكلمات عن مغادرة حلقي: لكنَّها أمُّك يا حيوان.
.. عجزتُ عن مخاطبتهِ، كانت عيناه متقدتينِ انتصارًا، ملامحهُ الجامدةُ أثارَت جنون غضبي، هممتُ بلكمهِ، أو أن أرميهُ من الشرفةِ، ليتحطم رأسه الصغير على صخور الشاطئ. أدار لي ظهره استفزَّتني ثقته المتوحشة بنفسه، واتَّجه إلى حافةِ الشرفةِ مادا قامته أمامَ البحرِ، نهضتُ بسرعةٍ إلى خلفهِ جذبتُ كتفهُ بقوةٍ ففتلَ جذعَه اتِجاهي، وكادَ أن يقعَ ثبّته على حائط الشرفة، رفعت قبضتي، أعمانيْ الغضبُ، لوهلةٍ قصيرة ٍ لم أرَ وجهَهُ، ولمّا واجهتني عيناهُ كان البحر ُيطوف منهما وكانت شفتاهُ ترتعشانِ، وفكّه يرتجفُ، جذبتِه بقوة إليَّ، غرس وجهَهُ المبلّل في صدري، مرتعشاً شاهقَ الأنفاسِ يفحُّ صوتُه الساخن في أضلُعي:
-لكّنها .. لكنّها .. أمّي.
- لا عليك ياصغيري سأكون.. سأكونُ أمَّكَ وأباكَ
  • Like
التفاعلات: خولة السعيد

تعليقات

أعلى