بدر شاكر السياب - عبقرية لم تعرف حقها من التقدير

يقول الناقد ، الشاعر ، الانكليزي « ستيفن سبندر » إن شعراء العصر الاليزابثي الذين كتبوا المسرحيات الشعرية وعلى رأسهم شكسبير ، ليكونوا من كتاب الرواية ، القصة الطويلة ، لو أنهم عاشوا في عصرنا هذا . ويقسم سبندر الرواية إلى قسمين شعرية و نثرية . ولا يقصد بالرواية الشعرية التي تكتب بكلام موزون ومقفى ، أو غير مقفى ، بل التي تكتب بأسلوب شعري ، وأن يكون أبطالها رموزا لفكرة من الأفكار ، وأشخاصا من لحم ودم في آن واحد ، وأن يكون جوها شعريا .

واذا كانت الروايات الشعرية التي ظهرت حتى الآن قلية العدد فان القصة القصيرة أخذت اليوم تقترب من القصيدة الشعرية بصورة ملموسة ، وشواهدها كثيرة .

ومن القصاصين ـ الشعراء ، وهم قلة في أدبنا العربي حتى الان ، عبد الملك نوري ، بل لا أغالي إذا قلت إنه خيرهم ، واغناهم فنا وشاعرية . فهم عبد الملك نوري الواقعية كما لم يفهمها الا القليلون من الأدباء ، شعراء وناثرين ، ومن الفنانين رسامين ونحاتين ، وتحول هذا الفهم عنده ، إلى عمل ، إلى قصص قصيرة ، كما لم يتحول الا عند قلة من هذه القلة، كل قصة من قصصه الناجحة ، وهي تكاد تكون ناجحة كلها ، جديرة بدراسة تخصص لها .

أقول الحق الصراح ، الذي لا يجامل ولا يجحد ، ان مجموعته القصصية الرائعة «نشيد الارض » سدت الفجوة الواسعة بين القصة القصيرة في الأدب العربي ومثيلاتها في الآداب الاوربية ، وألحقت ركبها المتأخر أجيالا ، بركب القصة القصيرة التي تخطت القرن العشرين بأعوام سبعة .

في قصص عبد الملك القصيرة أحسن ما في روايات دستويفسكي من ميزة : ان المسرح الذي تدور فيه اكثر « احداث » القصة هو نفس البطل ، أو ذهنه أو ضميره سمه ما شئت !! إنه العالم الداخلي . والأحداث التي نسميها كذلك مجازا هي حشد من الذكريات والتمنيات ، والأحلام ، والهواجس . وقليل من أحداث القصة فحسب يحدث في العالم الخارجي ذلك أن أبطال عبد الملك نوري أبطال منهزمون ... كان الواقع ، بكل تعقيداته ومنطقه الذي هو ليس منطقا ، أقوى منهم ، أقوى من امكانياتهم كأفراد ، فهربوا إلى « العالم الآخر » إلى نفوس يلوذون بها من الواقع الذي خيبهم .

أبطاله شخصيات « هاملتيه » يتكشف ضعفها أمام اعينها وأعين الناس حين تعمل ، وهي تدرك هذا في أكثر الاحيان ، ولذلك تنفر من العمل ... المضطرة إليه .

المونولوج الداخلي عند هذا القصاص العبقري عنصر أساس من عناصر القصة ومن عناصر الشعر فيها ، بل لعله عنصرها الأهم .

وينفرد عبد الملك بين كتاب القصة القصيرة في الأدب العربي جميعا بأنه يستخدم «الرمز » في قصصه ، وينجح في ذلك نجاحا يكاد لا يجاري .

أهناك شبه بين أبطال عبد الملك نوري وبين « الرجال الجوف » كما صورهم الشاعر الانكليزي ت . س . اليوت في قصيدته الرائعة عنهم ؟ ! لا أدري . ولكن «الظل» أو الستار الذي تحدث عنه « الرجال الجوف » مائل في كثير من قصصه :

بين الفكرة والواقع

بين الحاضر والعمل

يسقط الظل

والستار ، الظل ، أو الحجاب ، بين إرادة الشخصيات « الملكنورية » نسبة إلى عبد الملك نوري ـ وبين الواقع ، لا يسقط لان الملكوت ـ حسبما نقرأ في « الرجال الجوف » ولكنه يسقط لأنه لغير الله ، لله تعالى .

بين الفتاة في قصة « العاملة والجرذ والربيع » أو بالأحرى ، بين أحلام الفتاة وأمنياتها ، وبين الواقع ، يقوم سياج الحديقة الذي اتكأت عليه تصغي إلى الأنغام الموسيقية العذبة المنبعثة من ابهاء القصر ، وتحلم بعالم « سندرللا » وبين السكير الكهل في قصة «الجدار » وبين ابنه الشاب ، يقوم الجدار .

وبين الشاعر الحالم في « قصة غثيان » وبين جسد المرأة العارية ، يسقط ظل عينيين كأن ظل « سينارا » في قصيدة داوسن الرائعة « البارحة ، آه من ليلة البارحة ، فبين شفتي وشفتيه سقط ظلك ياسينارا » .

ولكن الشاعر في قصة عبد الملك اصيب بالغثيان وسقط الظل بينه وبين المرأة قبل أن يقبلها .

وفي بعض الأحيان ، يعجز أبطال عبد الملك نوري حتى عن تحقيق أمنيات بسيطة للغاية . فالديك النذر الذي تحمله المرأة الريفية في « قصة ريح الجنوب » إلى ضريح الشيخ محيي الدين ، يفر من يديها وهي في القطار .

قصة واحدة من قصص هذه المجموعة ، فيها شيء من الأمل ، فيها انتصار وقتي على الواقع ، هي « نشيد الارض » ... انه مجرد حلم ، لا يغير من الواقع شيئا . ولكنه انتصار على كل حال .

وبعد فهذه مقدمة قصيرة لدراسة واسعة لقصص هذا الكاتب العربي العبقري انوي تقديمها في فرصة سانحة .

وان لمما يخجلنا ، كنقاد للأدب ، أو متذوقين له ، أن تقوم بيننا عبقرية كعبقرية عبد الملك نوري، دون أن نوفيها حقها من التقدير .


* نشرت في جريدة الشعب ( العراقية )، العدد : 3876 / 6تموز / 1957 ـ العدد الاسبوعي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى