بدر شاكر السياب - وسائل تعريف العرب بنتاجهم الأدبي الحديث

قبل أن أبين الوسائل التي أراها كفيلة بتعريف العرب بنتاجهم العربي الحديث أودَّ أن أتحدث عن النتاج الأدبي ذاته ليعرف زملائي الكرام وجهة النظر التي سينطلق منها رأيي في تلك الوسائل فيكملوا من وجهات نظرهم الخاصة ما في كلمتي هذه من نقص لنصل بعد ذلك إلى الغاية التي نهدف إليها ونحن نعالج هذا الموضوع في جملة ما نعالجه..‏
لو قيض لنا أن نطلع على الآثار الأدبية التي قال الزمن فيها كلمته بأنها رائعة خالدة لوجدنا أن سر خلودها وروعتها كامن في أنها جعلت من الصراع بين الإنسان وبين الشر وقواه موضوعها.‏

ولنا في الأوديسة والإلياذة والكوميدية الإلهية وما كبث وفاوست والفردوس المفقود ـ وهي آثار ستة للشعراء الستة الذين أجمع النقاد على أنهم أعظم شعراء البشرية الذين لا سابع لهم ـ خير شاهد. فهذه الآثار جميعاً كانت تصويراً لهذا الصراع. فرأينا الشر متمثلاً في الآلهة الحاقدة القاسية وقوى الطبيعية الغاضبة، أو في الساحرات الخبيثات اللواتي كن زمزاً للأفكار الشريرات التي تعمل في نفس الإنسان، أو في مستو فليس وهو يساوم فاوست على روحه، أو في بعض البابوات الذين خانوا رسالة المحبة والسلام والحكام الذين ظلموا الرعية واستجازوا كيدها، أو في إبليس الذي أخرج آدم وزوجه من الجنة.‏

ولسنا في حاجة إلى القول بأن تاريخ الإنسان كان وما يزال صراعاً بين الشر وبين الخير وبأن التعبير الأدبي عن هذا الصراع إنما هو تعبير عن الحياة أو أدب واقعي بعبارة أخرى.‏

ولئن ظلت البشرية أحقاباً طوالاً وهي ترى الشر وتلمس آثاره ولا تدري من ين يأتيها، لقد عرفته اليوم على حقيقته وعلمت من أين يجيء. فعرفت ـ تبعاً ـ لذلك الطريق التي تدفعه بها أو تتقيه أو تقضي عليه قضاءاً مبرماً، ولست أقول جديداً حين أقول أن الشر يتمثل اليوم أبشع ما يتمثل وأخطر في الاستعمار وقواه وما يعتمد عليه من فئات.‏

ولكي يبدو قولي هذا صحيحاً بالنسبة للجميع الذين تختلف آراؤهم في مصدر الشر أعيد صياغة هذه العبارة فأقول أن أبشع قوى الشر وأشد جنوده خطراً يتمثلون في الاستعمار والمستعمر وفي الظلم الاجتماعي والظالمين وما ينشر أولئك وهؤلاء من وباء وبلاء.‏

وقد كانت وظيفة الأدب أو بالحري وظيفة الرائع منه ـ تصوير هذا الصراع القائم بين الشر وبين الإنسان وما زالت تلك وظيفته حتى يومنا هذا. وأود أن أبيّن ناحية مهمة هي أن الأديب حين يصور هذا الصراع لا يقف منه موقف المتفرج المحايد ـ لأنه إنسان قبل كل شيء ـ فالقضية إذن قضيته والمعركة معركته. وهكذا كان الأدب وما يزال سلاحاً من أسلحة الإنسان التي شق ويشق بها طريقه نحو حياة أفضل.‏

وكان الأديب العربي واحداً من أدباء العالم الذين أدركوا وظيفة الأدب منذ أقدم العصور. وإذا قرأنا الشعر الجاهلي وهو أقدم ما وصل إلينا من تراثنا الأدبي، وجدناه شعراً تكاملت فيه كل العناصر التي يتكون منها الشعر الواقعي أو أكثرها على أقل تقدير. ولم تقتصر واقعية الشعر الجاهلي على تصوير الطبيعة التي كانت تحيط بقائليه ولا بيان العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك العصر ولا وصف العادات والتقاليد بل يتعدى ذلك كله إلى ما هو أجل وأبعد أثراً في حياة الإنسان. لقد نزل الشاعر الجاهلي إلى الساح يصارع الشر وقواه في جملة المصارعين ـ بحسب فهمه وفهم مجتمعه ـ القبيلة (للشر وقواه). فقد يكون الشر متجسماً في قبيلة تغير على قبيلة الشاعر أو حرب بعثت فكانت ذميمة أو في بخيل لا يبذل للآخرين المال أو جبان لا يبذل لهم من نفسه أو طاغية يسوم الناس خسفاً.. إلى آخر ما قارعه الشاعر الجاهلي من صور الشر العديدة.‏

وجاء الإسلام فعرف وظيفة الشاعر خير معرفة. ولو وقفنا برهة عند الآية الكريمة (والشعراء يتبعهم الغاوون ـ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) لوجدنا فيها أعظم توجيه في وظيفة الأدب. بل إن كتابنا الخالد ـ القرآن ـ كان بحد ذاته أدباً بلغ من السمو منتهاه، ومن فضول القول أن نذكر أنه الأدب الذي جمع بين أروع أسلوب وأنبل غاية.‏

ولو تتبعنا تاريخ الأدب العربي منذ نشأته الأولى حتى يومنا هذا لألفيناه ـ في أروع مظاهره ـ أدباً واقعياً أو ملتزماً أو سمه ما شئت من الأسماء التي تدل على أنه كان يدعو إلى الحق والخير والجمال ويكافح الشر والباطل. وهو الأدب الذي ينتصب فيه المتنبئ طوداً شامخاً. وما كان المتنبي إلا عربياً ثائراً تمرد على الأوضاع السيئة التي كان المجتمع العربي يتخبط فيها ـ رأى عرباً ملوكها عجم وأرانب مفتحة عيونهم نياماً فأبى وتمرد وعتى على من عتى. أو لم يكن سيف الدولة الذي وقف المتنبي عليه أروع شعره ـ بطل العروبة المكافحة عن غمارها الواقفة بالمرصاد لجيوش الروم المحتشدة على حدودها؟ وإذا ذكر المتنبي تبادر (المعري) إلى الذهن في الحال. ولم يكن المعري إلا داعية من دعاة الحق والخير والحب والعدالة الاجتماعية. وكان الجاحظ أول أديب عربي نزل إلى السوق فصور لنا أحوال الشعب تصويراً ينبض بالصدق والحياة بأسلوب حسبنا أن نقول فيه أنه أسلوب الجاحظ، ويقيني أننا لو جردنا أدبنا العربي من هؤلاء العمالقة الثلاثة لعاد أدباً باهتاً لا يمكن أن ينهض على قدميه بين آداب الأمم الكبرى. وهناك أمر لعلنا كنا عنه غافلين. ذلك أن الشعوبية والأدب الداعر الماجن كانا يتمشيان يداً بيد. ولم يكن من باب الصدفة أبداً أن يكون بشار وأبو نواس ومسلم بن الوليد ـ وكلهم من الفرس الشعوبين ـ رسل الشعر الماجن الخليع.. يتبين من كل هذا أنني من دعاة الأدب الواقعي أو الملتزم أوسَمَّه ما شئت فإن ما ندعوه وردة يبقى وردة وإن سميناه باسم آخر كما يقول شكسبير. ولكن الواقعية التي أدعو إليها هي الواقعية التي تحدث عنها الناقد الشاعر الإنكليزي الكبير ستيفن سبندر في محاضرته القيمة عن الواقعية الجديدة والفن. يقول سبندر أن الفنان الحديث أصبح انطباعياً وسريالياً وتكعيبياً ورمزياً في محاولته الهادفة إلى إيجاد انسجام بين ذاته وذات المجتمع ـ ولكنه أبى لنفسه أن يكون من زمرة الطبيعيين الذين ينقلون الواقع نقلاً فوتوغرافياً. ولم يلبث الفنان الحديث حتى اهتدى إلى مخرج ـ كما يقول سبندر ـ وقد وجد هذا المخرج في الواقعية الحديثة. وهي في رأيه تحليل الفنان للمجتمع الذي يعيش فيه تحليلاً عميقاً فيه أكبر عدد مستطاع من الحقائق التي يدركها بنفاذ بصره ـ ولا تهم بعد ذلك وجهة النظر التي ينظر منها ما دام تحليله كذلك. فقد حلل الشاعر الإنكليزي الفذ (ت . س . اليوت) مجتمعه بل المجتمع الأوروبي كله تحليلاً عميقاً صادقاً فيه الكثير من الحقائق ـ في قصيدته الرائعة (الأرض الخراب) التي كتبها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كما حلل جون شتينبيك في قصته الإنسانية الرائعة "عناقيد الغضب" مجتمعه الأمريكي تحليلاً عميقاً صادقاً فيه الكثير من الحقائق.‏

ورغم أن الشاعر الإنكليزي الكبير انطلق عن وجهة نظر دينية وأن الروائي الأميركي الكبير انطلق عن وجهة نظر اشتراكية فالقصيدة والرواية رائعتان من روائع الأدب الواقعي الحديث.‏

ونأتي إلى النتاج الأدبي الحديث في وطننا العربي فنجده ينضوي بصورة عامة تحت أصناف ثلاثة واقعي أو ملتزم بالمفهوم العام للواقعية والالتزام ـ ومحايد، ومنحل، وقد عممت في هذا التصنيف تيسيراً للبحث.‏

أما إنتاجنا الواقعي أو الملتزم فهو في كثير من الأحيان خلو من الفن أو بعيد عن المعنى الصحيح للواقعية والالتزام. والمنظومات السياسية والقصص التي كانت جديرة بأن تكون مقالاً افتتاحياً في جريدة، تملأ مجلاتنا ومكتباتنا وإذاعتنا.‏

ولكن ذلك لا يعني خلو أدبنا من نتاج واقعي بالمفهوم الصحيح للواقعية يبلغ حد الروعة أحياناً. وحسبي روايات نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وقصص عبد الملك نوري شواهد على ذلك. والحق أن الروايات والقصص الواقعية الناجحة أكثر من الشعر الواقعي الناجح.‏

والواقعية التي نريدها هي التي تنبع من نفس الأديب. وبعبارة أخرى إننا لا نريد من الأديب أن يكتب أدباً واقعياً إلا إذا كان مؤمناً بأنه الأدب الذي يحقق الأديب ذاته بكتابته دون سواه لا أن يكتب عن خوف من لوم أو اتهام بتقصير ولا مجاراة للذوق العام ولا عن طمع في الشهرة.‏

أما الأدب المحايد فأقصد به الأدب الذي يكتبه الأديب في معزل عن الأحداث العامة الجارية من حوله دون أن يكون لـه أثر ضار في مجتمعنا العربي. وقد يعترض معترض فيقول ليس هذا الأدب محايداً فإن قصيدة كـ (النهر المتجمد) لميخائيل نعيمة ـ أو "حولي عينك" لعبد الرحمن الخميسي تمد حياتنا الفقيرة بلحظات من الغنى وتعلمنا درساً في تذوق الجمال نحن في حاجة إليه ـ فالإحساس بالجمال يفجر ينابيع الخير، ولكن مثل هذا الاعتراف يرد نفسه بنفسه. فكون الإحساس بالجمال يفجر ينابيع الخير في النفوس هو بحد ذاته سبب يدعونا إلى المناداة بالأدب الواقعي وهانحن اليوم نرى الإنسان العربي يحيا حياة أبعد ما تكون عن الشعر والجمال. إنه بصورة عامة إنسان لم يحقق ذاته بعد وعلينا ـ نحن النخبة التي استطاعت أن تحقق ذواتها إلى حد ما ـ أن نعينه على ذلك ليستطيع من بعد أن يتذوق الجمال في الطبيعة وفي الأدب وفي كل وجه من وجوه النشاط البشري تذوقاً يليق به. فالمسألة إذاً مسألة توقيت ونحن اليوم نخوض معركة يتقرر من فوزنا أو خسارتنا فيها وجودنا كأمة ذات فن وحضارة ورسالة أو فناؤنا كشرذام من البشر هي إلى السوام أدنى. ويمثل أمامي بهذه المناسبة مشهد من الإلياذة (وهناك مشهد شبيه به في الأوديسا) اثنى عليه النقاد لما فيه من صدق وحقيقة. فقد غضب البحر وهاجت غواربه ورياحه حتى لم يبق من سفن أنييد في هربه من طروادة بعد سقوطها إلا أقلعها. وابتلع اليم طائفة كبيرة من رفاقه. ثم هدأت وجنحت السفن الباقية إلى الشاطئ ونزل البطل وصحبه إلى البر جائعين متعبين حتى إذا نالوا قسطاً من الشبع والراحة تذكروا رفاقهم الذين هلكوا فطفقوا يبكونهم أحر البكاء.‏

ويقول أحد النقاد وهو يعلق على هذا المشهد وما فيه من صدق وحقيقة أن البكاء ليكون ترفاً لو أن أنييد وصحبه كانوا قد بكوا رفاقهم قبل أن يطعموا ويستريحوا. والإنسان القلق المهدد في وجوده غير قادر على مثل هذا الترف.‏

ولا أغالي إذا قلت إن الأدب الذاتي في هذه المرحلة من حياة أمتنا ترف لا غير. وأن أمة تجنح إلى الترف وهي تخوض معركة المصير لهي أمة أمرها إلى خسران.‏

وبقي اللون الثالث من ألوان نتاجنا الأدبي الحديث ـ وهو الأدب المنحل. وفي الوسع تقسيمه إلى فرعين أولهما الأدب الذي يدعو إلى اليأس والهزيمة وأمثلته في أدبنا الحديث وخاصة في الفترة الأخيرة قليلة جداً. ولعل أكثر الأدب السوداوي اليأس هو الذي يكتبه الشباب المراهقون ويأسهم في الغالب يأس مبعثه الإخفاق في الحب. ولا يشكل هذا الأدب خطراً كبيراً لرداءة نماذجه ولأنه لا يرتكز إلى ركيزة فكرية في قنوطه ويأسه. أما الأدب اليائس يأساً ينبعث من موقف فكري معين فهو أيضاً قليل الشيوع في أدبنا الحديث وهو يصدر ـ أغلب ما يصدر ـ عن أدباء من الشيوخ ماتوا أدبياً وتخلفوا عن ركب التطور وإن ظلوا يعيشون على بقايا مجدهم الذي حصلوا عليه في صدر الشباب والسنوات القلائل التي أعقبت، وهم قلة والحمد لله ولم يعد لهم من القراء سوى عدد ضئيل، الكثرة الكاثرة منهم من معاصريهم في صدر شبابهم وما تلاه من سني الشهرة والإنتاج الغزير، ولكنهم ما زالوا يشكلون خطراً أكبر من الخطر الذي يشكله اليائسون المراهقون.‏

أما الفرع الثاني من فروع الأدب الانحلالي فهو هذا الأدب الماجن الداعر الذي يملأ المكتبات وتتناقله المجلات ويقبل عليه المراهقون والمراهقات وسواهم من الشباب إقبالاً هو كل الخطر. وإن هذا النمط من الأدب أقل ضرراً في الشعر والفنون الأدبية الأخرى منه في الرواية والقصة القصيرة والطويلة. وهو أدب لا يفرغ عن دغدغة الغرائز البهيمية وإثارة الشهوات السفلى وإفساد أخلاق الجيل الطالع في سبيل أن يصيب أصحابه شيئاً من المال أو الشهرة.‏

وإن إنتاج أدب كهذا لهو نوع بشع من أنواع الجريمة ـ لا يغير من ذلك مكان ولا زمان. بل إن إنتاجه في بلاد كوطننا العربي وفي مرحلة ما كمرحلتنا هذه ـ يرقى إلى درجة الخيانة. فالإغراء الذي فيه والرواج الذي يلقاه نتيجة لذلك يجعلانه أشد خطراً من أدب اليأس والهزيمة.‏

هذه مقدمة كان لابد منها ومن الاستفاضة فيها لنعرف أي نوع من أنواع النتاج الأدبي يستحق أن ينفق عليه العرب من أموالهم ويشد الأدباء رحالهم إليه من أقصى أجزاء الوطن العربي حيثما كان.‏

وواقعية الأدب هي بحد ذاتها وسيلة من وسائل التعريف به، ولهذه الواقعية عمل مزدوج في نشر الأدب بين الجماهير العربية. فهي ـ من جهة عامل من عوامل نضج الأدب بالإضافة إلى عوامل النضج الذاتية الأخرى كأصالة الأديب وغنى تجربته الشخصية وخصوبة ثقافته. ولسنا بحاجة إلى القول بأن الأدب حين ينضج يصبح قابلاً للانتشار من تلقاء ذاته بين الجماهير العربية في حدودها المحلية السياسية أولاً ـ ثم في حدودها العربية الكبرى بعد ذلك. ونضرب مثالاً على ذلك بأن القراء العرب في كل قطر عربي تقريباً يعرفون إنتاج أكبر أديب في بقية الأقطار العربية. وحين انتقل من التعميم في المثال إلى التخصيص أذكر الجواهري شاعر العراق الأكبر الذي لا يعرف القراء شاعراً عراقياً سواه مثلما يعرفونه. كما أن واقعية الأدب (أي تبنيه قضية الجماهير العربية) تدفع هذه الجماهير إلى تبنيه بدورها.‏

وحين نستعرض كلامنا السابق كله تبرز أهمية النقد الواعي كوسيلة مهمة من وسائل التعريف بالأدب. وقد رأينا كيف يحفل نتاجنا الأدبي الحديث بالكثير مما يعود على أمتنا بأغلب الضرر ومن ما يتوجب علينا أن نحاربه. وإن إيكال محاربة أي لون من ألوان الأدب إلى الدولة ـ إنما هو تسليط للدولة على الأديب وإنه لتسليط قد تستغله الدولة في محاربة الأدب الواقعي الذي ندعو إليه. وليس هناك سوى النقد من سلطة تنتدب للقيام بهذا الواجب المقدس وأعني به محاربة الاتجاهات الضارة في الأدب. والنقد يعد عاملاً من العوامل الموضوعية لإنضاج الأدب وبالتالي نشره بين الجماهير العربية. بتكرار ما قالوه لهذا لابد من تشجيع الدولة للأديب وتأمين الحرية له. وأنا هنا أؤكد على ما ذهب إليه الكثيرون في هذا المجال باعتبار هذا التشجيع وسيلة من وسائل تعريف القراء العرب بأدبنا الحديث ولكن وضع الشعب العربي الراهن في أنه موزع في دول عديدة ـ تتفاوت فيما تتيحه كل دولة منها لأدباء الدولة العربية الأخرى، من حرية وتشجيع.. أقول إن هذا الوضع يجعلنا ننظر إلى موضوع العلاقة بين الأديب والدولة من زاوية أخرى بالإضافة إلى الزاوية التي نظر منها الأساتذة الأفاضل الذين بحثوا في هذه العلاقة. فحين نفكر في وسائل تعريف العرب بنتاجهم الأدبي الحديث ينهض أمامنا نوع جديد من أنواع العلاقة بين الأديب والدولة. وهي علاقة بين الأديب وبين دولة ليست بدولته ـ فهي لا تستطيع أن تمسه بأذى مباشر وليس لها عليه من سلطان مباشر. وأقول سلطان مباشر لأن لها عليه في الحق سلطاناً غير مباشر ـ فهي تستطيع مثلاً أن تمنع كتابه أو مجلته من دخول بلادها إذا أرادت ذلك مما يضطره أو يضطر الناشر أحياناً إلى تشذيب النتاج الأدبي أو تعديله وفقاً لأهوائها خوفاً من الخسارة المادية التي قد تستحيل بدورها إلى خسارة أدبية.‏

إن وضع التوصيات وحده لا يحل مشكلة. فقد اتخذ مؤتمر الأدباء العرب الأول الذي انعقد في بيت مري منذ عامين ـ قرارات هامة وصاغ.. توصيات قيمة. ولكنها ظلت طوال هذين العامين حبراً على ورق فقد كان من بين توصياته التأكيد على احترام حرية الفكر والأدب.‏

ولكننا لم نسمع أديباً واحداً من بين الأدباء الذين وقعوا على تلك القرارات يرفع صوته مدافعاً عن حرية الفكر والأدب أن تُقَيَّد أو محتجاً على تقييدها، فلنعاهد أنفسنا إذن على تنفيذ ما سنتخذه في هذا المؤتمر من توصيات ومن بينها احترام حرية الأدب.‏

هذه هي المشاكل الكبرى التي تجابهنا حين نبحث في الوسائل الكفيلة بتعريف أدبنا المعاصر إلى القراء العرب.‏

وهناك بعض المشاكل الثانوية الأخرى منها أن عدداً من الأدباء لا يملكون الوسائل المادية لنشر إنتاجهم. ومنها هذا الحشد الهائل من الكتب التي تقذفها المطابع العربية في كل أسبوع بل في كل يوم والتي يقف القارئ العربي منها موقف الحيرة لا يدري أيها هو الجدير بالقراءة. ومنها أيضاً أن كثيراً من القراء غير قادرين على شراء الكتب لارتفاع أثمانها بسبب تكاليف الطباعة الغالية أو من جشع المؤلف أو الناشر.‏

هذه بعض المشاكل التي تراءت لي وأنا أبحث في هذا الموضوع بعجالة بسبب ضيق الوقت الذي أعدت فيه المحاضرة. وإني لأطرح عليكم هذه المشاكل عسى أن نتعاون في إيجاد حلول لها وعسى أن تكمل ما جاء في هذه المحاضرة التي قمت بها من نقص وقصور.‏

وفي الختام أرجو أن تسمحوا لي بأن أعرض عليكم بعض الحلول المباشرة التي خطرت ببالي بالإضافة إلى ما سبق ذكره، فلكي نحل مشكلة العلاقة بين الدولة والأديب العربي الذي ليس من رعاياها، ولكي نحارب الأدب الضار عن طريق النقد الواعي، ولكي نساعد القارئ العربي في اختيار الكتب التي هي جديرة بالقراءة، ولكي نشجع الأدباء الناشئين وننشر نتاج الأدباء المعوزين ولكي نيسر للجماهير العربية سبيلاً إلى القراءة الجيدة دون أن نكلفها كثيراً من المال ـ أرى أن يبذل المؤتمر مساعيه لتأسيس دار للنشر ترصد لها كل حكومة عربية مبلغاً مناسباً من المال وتكون وجهاً من أوجه النشاط الثقافي للجامعة العربية دون أن يؤدي ذلك إلى تقييد حرية الأدب أو التزام الدار بأكثر من الخطوط العريضة للاتجاه القومي التقدمي السليم، على أن تشرف على شؤون هذه الدار الأدبية لجنة تنبثق على هذا المؤتمر وتتألف من كبار النقاد والأدباء تكون مهمتها اختيار الكتب الصالحة للنشر من بين المؤلفات التي يتقدم بها المؤلفون العرب إليها. شريطة أن يكون نشرها لأي كتاب من الكتب ملزماً لكل دول الجامعة العربية بأن تسمح بدخوله إلى بلدانها. ومن المستحسن جداً أن تصدر عن هذا الدار مجلة أدبية بنفس الشروط.‏

كما أن تأسيس رابطة للأدباء العرب على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية والأدبية شريطة أن يؤمنوا بمقررات هذا المؤتمر وتوصياتها التي ستكون منهاجاً لتلك الرابطة.. إن قيادة رابطة كهذه سيكون من أكبر العوامل في تعريف العرب بنتاجهم الأدبي الحديث وفي رفع مستواه. وأن اتخاذ التوصيات بهذا كله أمر ضروري، وكذلك وتفكير الحكومات العربية بأن الأدباء العرب الموقعين على هذه التوصيات سيقفون بالمرصاد لكل اعتداء على حرية الأديب، إذا كنا جادين في تحقيق ما اجتمعنا من أجله وما نكتب وما نقول.‏



السياب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى