إبراهيم الحسيني - الشاهد.. قصة قصيرة

وأعـد ت غـرفــة الإعـدام .
راجع المأمور مع العشماوي: متانة الحبال المجدولة, قتامة العصابة السوداء .
حوائط جرانيتية ضخمة مبطنة بجلود سميكة سوداء, مساحة خشبية تتوسط أرض الغرفة مغطاة بسجادة بالية, ترس كبير أسود يتصل بذراع حديدية سوداء, يجذبها " العشماوى"بغتة بقوة: فتنشق الأرض عن هوة سحيقة,ليصعد ملك الموت.
يوم رآها,تطارد السيارات في الإشارات, تتلقى الزهور لركابها من نوافذها, لم يكن على يقين :
" هي مش هي "
طار سائق التاكسي الذي يستقله, تلفت وراءه, ليهبط, كانت قد اختفت, لكنه تذكر, وهى تتطلع من الشرفة, فجر أيامهما معا:
- لن يكون مصيري مثل هذه المرأة.
كانت تشعر برباط وثيق - تكرهه- بينها وبين هذه المرأة التي تقيم ليلا ونهارا, على الرصيف: تسب المارة والحكام,وتتسول ما يقضى حاجتها:
- اطرد هذه المرأة من هنا.
اللون السائد هنا أزرق, الجدران زرقاء, النوافذ زرقاء,الأزياء زرقاء, الأسقف, حتى النهار مشوبا بزرقة خفيفة, النادر أصفر زى الحراس, لكنك تستطيع تمييز الأحمر في عنبر الإعـدام.
الساعة الآن الرابعة إلا ربع.
" ربما يكون هو, وربما يكون غيره"
باق من الزمن ربع ساعة.
- كل واحد من هؤلاء يعرف مصيره.
- ومن لا يعرف مصيره ؟
- كيف يعيش الإنسان على حافة الموت ؟
- كلنا على نفس الجرف .
كان الفضول يستثيره, يؤرق نومه, يملك عليه وجدانه, يعذبه, ويقود خطاه. وكان محظورا على السجناء الاقتراب من الذين يلوحون هناك شاحبي الوجوه , واجمين .
ذات مرة حام حول أسلاك العنبر, عله يخاطب أحدهم, ثم تجاسر وسأل أحد الحراس:
نفسي أعرف بما يحسون ؟ كيف يفكرون ؟
تطلع الحارس بدهشة :
- كلنا أموات يا أستاذ , ابعـد.
لم ندرك خطورة ما يجري, لم ننتبه إلى ما وراء عبارته وقتها:
- دوستويفسكى خاض التجربة, لهذا أنتج أدبا عظيما.
هاجس ما كان يطارده :
- المرأة التي أحبتني, المرأة التي أحببت, لن أراها إلا هنا.
كانت كالوردة في الفجر تتفتح, تستقبل نداي وهمسي وجنوني.
الورد عمره قصير, والشمس تجفف الندى, ولم يبق لنا إلا...
- اسمي مدبولى, نادوني مدبولى.
كنا ثلاثة, شاعر وقاص ورسام, بقايا انتفاضة يناير, نسكن الزنزانة المقابلة لغرفة الشنق, شقت لنا مجرى إلى" العشماوى" سيجارة, كباية شاي, فنجان قهوة, بقايا وجبة.
- تكره عشماوي يا حضرة الصول ؟
- أكل عيش , مهنة .
- الشنق يا حضرة الصول ؟!
- أنا سياف الملك, لو الملك قال: أشنق ابنك أشنقه!
- من غير ما تفكر ؟
- أنا أحن واحد على المشنوقين !
- في الشنق حنيه !
- حسن الصنعة, وقوع البلا ولا انتظاره .
كان أقربنا إليه , وأبعدنا عنه, لم نلحظ اهتمامه الزائد عن الحد, وهو يوغل في التجربة, يخوض في تفاصيلها وزواياها:
- الموت تجربة نادرة, الميت الحي, أو الحي الميت.
- هذه الحضارة شواهد قبور.
- الحياة قصيدة عدمية.
طلب الكتب في الزيارات وجمع المجلات وقصاصات الأخبار, يستعيد بين الحين والآخر, مشهد الخازوق في جسر على نهر درينا .
- هذا هو تاريخنا الجميل, تاريخنا الحقيقي, خوزقة ورجم وصلب, رمى بالرصاص وشنق وصعق بالكهرباء, من العصر البدائي إلى عصر التكنولوجيا .
يوما بعد يوم, جذبنا إلى عالمه, دفعنا ندور في دائرته, يلح على إنسان دوستويفسكى وكلبه في" مذلون مهانون", وطفل جوركي الذي يهوى الصراصير, مومس سارتر الفاضلة.
ورطنا معه وافقناه على شططه وجنونه, وضعناه بأيدينا على حافة المشنقة:
- سأرسل لكم كل ما أعـرفه من هناك.
قاومناه . وأصر .
دب.. دب .. دب , الساعة الآن الرابعة , أقدام الجند تقترب.
باق من الزمن ثوان.
- خل الليلة تعدى على خير يا فؤاد.
- خش زنزانتك منك له.
- بكره في إعـدام يا عـزيز.
صمت وليل ثقيل, ترقب وانتظار, عيون جامدة, أنفاس لاهثة , وكنا نتناوب النظر من فرجة بالباب: ثمانية عشر رجلا, منذ قدومنا إلى هذه المقبرة, وست عشر امرأة, كنا نسمع زحف أقدامهن وهن منهارات, مجرورات من تحت آباطهن, فالأنثى
أية أنثى لها رائحة نفاذة هنا :
- النسوان أحلى ما في الدنيا .
- هن الدنيا .
علقن على المشنقة: امرأة وراء امرأة , ورجل وراء رجل .
وفى الإعـدام الأخير , تهالك.. خارت قواه وارتعش , اسند رأسه بين كفيه, وخرجت من فمه حشرجة واهنة :
" هي "
- لن يكون مصيري مثل هذه المرأة .
وكان يتخفف على صدرها من آلامه وملاحقاته وجفاف أيامه .
- حبي نسيم الربيع , قادني إلى الصحراء.(1)
وكانت تتعرى بين يديه , من أصباغها وماضيها , بلا استحياء .
- أبى ميكانيكي , عامل في ورشه, والرجال لا يريدون منى
غير فرجي ومؤخرتي وأثدائي .
وكنا نجوب البلاد , سواحلها وصحاريها , أدخل فيها وتدخل في:
شهب ونيازك , ريح تعصف , موج يهدر, ونهر يفيض , هي بعض منى , أنا بعض منها .
ونفذ , اخترق الحصار .
- سيعدمونه يا محمود .
- وما شأني ؟
- حل محلك .
- قايضني بما يريد , وقايضته بما يريد .
وكان قد جاء بـه من دورة المياه خلسة , وقال :
- محمود محكوم عليه بالإعـدام , سوف نبدل مواقعنا.
- هذا جنون .
- بضعة أيام .. ونعود .
دب .. دب .. دب , أقدام الجند تقترب ,فرقة الإعـدام تتأهب , وملك الموت : يزحف كالحية , يدب كالنمر , يزأر كالريح , وينقض كالنسور .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى