عفاف السيد - كان يشبهني.. قصة قصيرة

ألقته في حجر أمي وخرجت..
قطعة لحم طازجة، لا يصرخ ولا يتململ..

لم يكتشف المصيبة التي وردت في قدومها.. تلك التي حملته في رحمها محصلة لمقدمات استغرقتها في حضن أبي.. نعم أبي.. ذلك الصلد الذي أوقع اللقمات في مرات كثيرة من فمنا.. وصادر الدموع في أعيننا.. نحن الصغار جدا.. الهلعين جدا.. التعساء دائما.

ألقته في حجر أمي – المذهولة – و.. خرجت.

في حجم قطة ضالة .. داهمها إعصار وحريق..

جامدا، له عينان خافتتان تشبهان أعيننا ، نحن الذين انكسرنا على مقصلة المعاناة المتدفقة بمرارة تُفّجرها ركلات وإهانات أبي.

ألقته أمي على الأرض فلم يصرخ ، وكانت هي الصارخة.

جاء صوت المرأة الخارجة من حجرتنا الدامسة إلى حيث أقدام ما بانتظارها.

(( لحمكم ، أنتم أولى به ، يكفيني حمله تسعة شهور ، يكفيني حمله تسعة شهور ، أوف..جاتكم نيلة..... ))

وتلاشى صوتها مع انتهاء الدرجات الصاعدة بها من جحرنا الأرضي إلى الحارة الرطبة..

ولم نلمح منها ـ أبدا ـ إلا قدميها من خلال زاوية النافذة المواربة.

ابن عشرة أيام هو ( أخي ) وأنا بعد في الثامنة من عمر إدراكي فيه مجسم.. جربت أن أحمله قبل أن تدهسه الأقدام الكثيرة التي تراصت حول أمي النادبة ، اللاطمة ، الشاقة جيوبها وستر صاحبها ، والكاشفة عورات رجولته.

( النجس ، المفضوح ، عيل !! مخلف عيل في الحرام !! )

وانكفأت الرؤوس نحوي والطفل .. تتفحصه العيون الغامزة .. وتتلقفه الحوقلة والتعوذ من غضب الله .. وتكتشفه صوصوات التحسر .. وبعض الأيدي تعبث بملامحه التي كانت تشبهني ..!!

ضممته برعاية صامتة .. شئ ما لم أدركه كان يدفعني أن أحميه من شر لم أره ولكني استشعره ..

وأمي تصرخ.. أن ينادي أحد أباها.. أن يأتي أحد بأخيها.. أن يشيروا عليها.. ماذا تفعل ..؟

وفي هذا الهرج .. أصوات تطالبها بالطلاق .. وأخرى بالتروي ، وأصوات تهمس بالفجيعة ( اكتمي نفسه ) وآخرون يدلون بجرمهم ( ارميه في الشارع .. وأنتي مالك .. أنتي أحن عليه من أمه ,,!! ).

وكنت أتشبث به ، ( أخي ) كان يشبهني.

استقر رأي أعمامي وأخوالي بعد أن يأسوا من عودة آبي على تسليم الطفل للشرطة.

ليلا ، حين انتابتني برودة ، لم أجد أخي جانبي ، ولم أجد أمي أيضا ، وبكيت وأنا أتكوم مع أختي في ركن حزين يتنازعنا خوف وضياع ، تشبثنا بصرخاتنا المكتومة ، وأخفينا أعيننا في صدور بعضنا ، وكنا قد بدأنا الموت حين فتح الليل عتمته عن شعاع أوضح لنا في صوت جدتنا ، أن الدنيا ما زالت دنيا وأنه بقي لنا ـ ما زال ـ جسر احتماء.

مر ليل آخر ، ونهار آخر ، وثلاثة ربما ، وأمي كما قالت جدتي في قسم الشرطة ، يؤازرها الشرع والعرف.

عقد أبي على المرأة في الشرطة ، وطلقها في حجرتنا بعد عودتهم جميعا واستخراج شهادة ميلاد للولد ..!!

وللمرة الثانية .. تتركنا المرأة ولا نرى منها سوى قدميها تغادر الحارة وهي تبرطم وسط العيون الفاضحة.

أحببت الولد أخي ، وكانت أمي تلقيه في أي مكان ، ولم تستطع أن تعطيه صدرها مع أختي الصغرى أبدا ، وتركته كثيرا يبكي ، ولم تبدل ملابسه المبتلة ، وكنت اعلم أنها آثمة.

انشرخت أمي بعنف ، وانكسرت عين أبي فانشغلا عنا بتصدعاتهما ، كيانان مهمشان، ونحن أربعة إخوة نلتف حول بعضنا ، نقتسم الحماية والدفء والانتماء..!!

لم يستطع أبي في يوم الاقتراب من ( أخي ) متحاشيا سياط لسان التي ولدتنا فقط ، ومع الوقت كان يكرهه بشدة ، لأنه يذكره بفضيحته وانكساره ، وكان الولد أخي يشبهني.

أطعمه طعامي، أدفئه بجسدي، أحمله في طيات الروح وأنا موقنة أنه أخي، وأنه مني ..!!

الولد أخي مشط الطرقات تحت أقدامنا ، وتعهد بنا ، ورقص في فرح أختينا ، وبارك أولادهما وحمل جثمان أبوينا ، ولم يبق من الماضي إلا.. هو وأنا.

الولد أخي كان يشبهني .

سافرنا معا ، ضحكنا معا ، وعملنا معا..

الولد أخي أعطيته من دمي..

وأعطاني ببساطة كليته عندما مرضت.

الولد أخي يرسمني في كل لوحاته ، وأكتبه في كل قصائدي ، وعندما ينظر في عيني ندرك - معا - أنني منه ، وهو مني ، فنضحك باتفاق خفي ألا نذكر حكايتنا لأحد ، وأن ننساها فيما بيننا.

الولد أخي وضع الشاي على مكتبي ، وجلس يقرأ ما كتبته ولم ينظر إلي ، ولم يضحك.

حين تلصصت عليه في مرسمه ، كان يكمل لوحته الحزينة ، رسمني طفلة بين ذراعيه..

وكان يبكي..!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى