عبدالقادر وساط - اللقلاق - (من مذكرات كلب)

كان اللقلاق يقف على ساق واحدة، في عشه العالي، فوق عمود الكهرباء.
وكنت أراقبه بنوع من الإشفاق. فهذا الطائر الغريب كان مخلوقا بشريا في الزمن الخالي، وكان يحكم بين الناس في أمور الدنيا الفانية، لكنه لم يشتهر بالعدل. كان يعاقب المظلوم ويلتمس العذر للظالم، ويقتص من الفقير ويحابي الغني. فلم يزل على سيرته تلك إلى أن حاقت به اللعنة الأبدية، فمُسخَ طائرا كئيب الخلقة، طويل الساقين، يقضي حياته في الترحال.
ومع ذلك، فلشَدَّ ما يبدو راضيا بقدره، قانعا بنصيبه، ممعنا في عزلته، كأنه فيلسوف مجنح، يتأمل أحوال الدنيا ويفكر في اختلاف الحظوظ والمصاير.
وقد جاء إلى ساحة الكاميليا منذ سنوات عديدة، واتخذ له عشَّا فوق عمود الكهرباء، حيث صار يقضي جزءا من السنة، قبل أن يختفي شهورا عديدة، ثم يظهر من جديد. ولا عجب في ذلك، فهو طائر مهاجر، ينتقل سنويا إلى البلاد الإسكندناڤية.
ولطالما تساءلتُ مع نفسي، أهو لقلاق إسكندناڤي، يأتي إلى المغرب كل سنة، أم هو لقلاق مغربي، يهاجر سنويا إلى تلك الديار الأوروبية البعيدة؟
مهما يكن، فإن هذا الطائر الحزين قد كف عن الهجرة منذ ثلاث سنوات. هكذا صار يقضي معظم وقته في العش، يقف تارة على ساقه اليمنى وتارة على اليسرى، ويحرك منقاره بكيفية عجيبة، فيصدر صوتا منكرا، كأنه يقرأ قصيدة في هجاء الخلق!
الله وحده يعلم السبب الذي جعله يمتنع عن القيام برحلاته السنوية المألوفة. وعلى أية حال، فهو لقلاق غريب الأطوار. إنه يعيش وحيدا، دون رفيقة تؤنس وحشته، وهذا أمر مستغرب لدى هذه الفئة من الطيور. فاللقالق تعيش حياة زوجية هادئة تتميز بإخلاص متبادل، يدوم العمر كله. أما صاحبنا هذا ،فهو مجبول على العزلة، كأنه لم يسمع بقول الشاعر الحطيئة:
ارجعْ إلى سَكَنٍ تلوذ به
ذهبَ الزمانُ وأنتَ منفردُ
ترجو غدا وغدٌ كحاملة
في الحي لا يَدْرون ما تَلدُ
ومن يدري؟ لعله يعاني من حالة اكتئاب، جعلته يلزم عشه نهائيا ويمتنع عن تلك الرحلات السنوية الطويلة، التي كان يقوم بها فيما مضى. و لعله الآن يقضي وقته في استرجاع الذكريات، أيام كانت له الرغبة والقدرة على الترحال. فقد كان يغادر ساحة الكاميليا فجرا ويمعن في الطيران بأجنحته المهيبة. وبعد فترة وجيزة، يكون قد عبر مضيق البوغاز، قبل أن يحلق عبر الأجواء الإسبانية والفرنسية ثم الألمانية ، باتجاه الأراضي الإسكندناڤية. وها هو اليوم يقبع وحيدا في عشه مثل طائرة معطلة، فسبحان مغير الأحوال!y

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى