ناصر سالم الجاسم - غـوث الزقـاق.. قصة قصيرة

بشر يمشي ووجهه إلى الأرض.. أشفار عينيه الملتهبة تلفظ آلام الخمسين سنة الضائعة من عمره.. يخيل لرائيه أن عينيه تفتّشان في جوف الأرض عن نقود ساقطة.. يقضي حاجته دوماً في العراء.. يرفض استعمال المراحيض، فهو يصرخ عند لومه على ذلك بقوله:
- إنها آنية نظيفة و جميلة يجب ألا تتسخ..

حاول مرة نزع واحد منها من أحد الحمامات فرُدَّ عن عزمه بعنف.
بشر عدّاء أسطوري.. إنه يصطاد الحمائم والعصافير من أذيالها وهي طائرة بيديه.. و إذا كان جائعاً أمسك بها من أجنحتها.. و حينما ينهكه العَدْوُ يغفو لِصق قناة ري جارية؛ فتأتيه العصافير تلتقط طعامها من روث الحمير العالق بقدميه والمختبئ في شقوقها.. و حين يرى الصبيان الأشقياء العصافير تنطّط حوله وتقتات من مائدة قدميه الدسمة يدركون أنه غط ّفي سباته العميق فيطردون العصافير ويتسلّون بنزع الشوكات الصغيرة من قدميه بأظافرهم.
أدرك بشر اعتداء العصافير على قدميه وانتبه لعبث الصبيان بهما فابتاع مذياعاَ يحميه غائلة العصافير وعصا تجنّبه لهو الصبيان..
تولّع بشر بالمذياع فلا تمرّ به إلا و تسمع صوت مذياعه عالياً.. عشق من برامجه نشرة الأخبار وأطربه منه الإنصات إلى القرآن الكريم حتى وجدوه ذات مرة يصلّي على النبي و يبخر المذياع بالطيب ظانّاً نفسه يبخّر المقرئ.
الأطفال نبشوا جيوبه وهو نائم قبل أن يُعرف عشقه للمذياع فوجدوا بداخل أحدها عنكبوت المزارع الأسود فارتاعوا وتصايحوا و صاروا ينعتونه منذ اللحظة بأبي عنكبوت.. طوّرت الأمهات الجاهلات النعت واتخذن منه سلاحاً يخوّفن به أبنائهن و بناتهن الصغار.. فنفلة قالت مرة لأبنتها تيها: كُلي البيض المغلي بالماء وإلا سأفتح الباب لأبي عنكبوت يدخل ويبتلعك.. وعبيدة هدّدت ابنها (خليل) فطلبت منه أن يلبس ثوباً ثانياً فوق ثوبه وإلا نادت عليه أبا عنكبوت يأكل أذنيه الطويلتين..
في مساء قروي هبطتْ فيه حمرة الشفق على أسطح الدور العتيقة، خرج بشر إلى الزقاق المهجور و صمّ أذنيه براحتي يديه وصاح بملء فيه وكأنه مشحون بمولّد كهربائي ففتحت له الأبواب الموصدة وخرجت النسوة من بيوتهن مذعورات.. وقتذاك التفتَ بشر إلى أخويه الكبيرين و كانا ممن خرجوا من البيوت إلى الزقاق فصرخ في وجهيهما مشيراً بسبابته إلى الحشد النسائي المجتمع قبالته: تقولان لا يوجد في القرية نساء وها هن النساء فاخطبا لي..
تزوج بشر بمغيضة البكر الودود فأنجبت له (مغيض)، فُطمَ مغيض فأنشأ بشر يلاعبه فصاد له الجراد الكبير الثقيل الحركة والبطيء الطيران و طرح أمامه الخنافس ليلحقها فيتعلم منها الحبو..
حين مُنع بشر من الأنثى كانت مشاعره كالبيت الوقف وحين ذاق رضابها صار يلبس الحذاء فهجرت العصافير والأطفال قدميه.
قال سهل المطلّق عشرَ نساء للكهول المكومين معه كأسماك ميته على الحصير المهمل في الزقاق الرملي وقت الضحى: شيئان يجب أن لا يؤخرا، المرأة والثمرة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى