فهد توفيق الهندال - الظلال الأقصر!..

في إحدى محاضراته الجامعية، قال الأديب الكبير عباس محمود العقاد ناهيا طلبته عن أسلوب الكتابة الرومانسية لمصطفى المنفلوطي: «من كان لديه إفراط في إفراز الدمع؛ فليذهب إلى طبّاخ المدرسة، ويشمّ البصل الصعيدي ليُخرج ما في داخله من دموع، ثم يكتب شيئاً قوياً لا حزيناً باكياً دامعاً»!

لاشك أن العقاد عُرف عنه الصرامة والشدة إلى درجة التعنيف بحدة في كتاباته النقدية، فهو شخصية صعبة المزاج ولا يمكن أن تخرج منه بثناء أقل على عمل ما إلا بعد مشقة كبيرة، ولا يكون القول المادح على مستوى العمل المطلوب مدحه، إلا أنه في نقده للمنفلوطي ناقض أحد مبادئ جماعة الديوان القائمة على أهمية وجود المسحة الرومانسية لكونها تنطلق من الذات المعذبة، والحزن هو أبهى صورها، كما هي في أدب المنفلوطي. جماعة الديوان التي تأسست 1909 م، يعتبر العقاد أحد مؤسسيها ومقاتليها مع الشعراء عبدالرحمن شكري وإبراهيم المازني، تأتي في تكوينها كردة فعل على جماعة أبولو التي أسسها الشاعر زكي أبو شادي، ثم اتجهت لتهاجم جماعة الاحيائيين للشعر العربي القديم. ولهذا هاجم العقاد والمازني وشكري أمير الشعراء أحمد شوقي وهو رمز الشعر الكلاسيكي في عصرهم أكثر من غيره، حيث قال عنه العقاد في معرض نقده لشعره: (قلما يرتقي الشاعر بعد الأربعين، فإنَّ أخصب أيام الشعر أيام الشباب، إذا ارتقى فإنما يكون ذلك باجتثاث الطبع وإدمان الاطلاع والتزيد من المعرفة)!

وهنا يحصر العقاد ينبوع العطاء الشعري بمرحلة الشباب، ليجف مع تقدم العمر، أي أن قوة الشعر ترتبط بقوة صاحبه، مما يعني شخصنة الشعر!

وزاد الطين بلة بعدما تحولت إلى شخصنة في القضية، لما قاله المازني في شوقي: (ليس شوقي عندي بالشاعر ولا شبهه. وأنه لقطعة قديمة متلكئة من زمن غابر لا خير فيه. يغني عنه كل قديم ولا يضيف هو إلى قديم أو حديث. وما أعرفني قرأت له شيئا إلا أحسست أني أقلب جثة ملئت صديدا وشاع فيها الفناء علوا وسفلا).

وهكذا كان هجوم جماعة الديوان، ليرى البعض أنهم إنما أرادوا الأضواء في نيلهم من شاعر له حضوره الكبير كشوقي، فلم يقفوا عند وصف شعره بالجمود، بل اتهموه بالسرقة وعدم الجودة ويفتقر إلى الوحدة الموضوعية في قصائده والركاكة وغيرها من التهم. وهو ما أثار ضجة كبيرة في الوسط الأدبي والثقافي برمته.

ومع ذلك، وبرغم قيم ومعايير جماعة الديوان حول رؤيتهم للشعر الحديث، إلا أنهم لم يستطيعوا الالتزام بها قبل غيرهم، فبرغم ما قدموه من تصورات نظرية صارمة حوله، كانوا أول من وقع في محظورهم قبل محمودهم، حتى دب الخلاف بين مؤسسي الديوان، ليتهم أولا شكري المازني بسرقة معاني أبيات من شعر أوربي وينسبها لنفسه، إضافة لمقالات من كتاب انكليز وفرنسيين، ليبرر شكري موقفه بالرغم من صداقته الحميمية للمازني التي سبقت علاقتهما بالعقاد، بأن ( الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه حتى يداوي ما فعل ويرد كل شيء إلى أصله وليس الاطلاع قاصرا على رجل من دون رجل حتى يأمن المرء ظهور هذه الأشياء ولسنا في قرية من قرى النمل حتى تُخفى). لتستمر المعركة بين شكري والمازني لمدة 17 عاما، وقف فيها العقاد لجانب المازني ولو أنه أيد ما ذهب إليه شكري بخصوص توخي الأمانة في النقل والاستعارة لدى المطلعين على الآداب الأجنبية، إلا أن كفته مالت للمازني أكثر ليصدرا معا أول عمل نقدي (الديوان في الأدب والنقد) عام 1921، يهاجمان فيه شوقي و... شكري، بعد خروج الثاني عن الجماعة، وكأنهم شربوا من نفس الكأس. فربما كان قامتهم النقدية شاهقة ولكن ظلال نتيجة المغامرة كانت أقصر!

ولا أعلم من شم البصل هذه المرة!
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.

* كاتب وناقد كويتي
أعلى