أمل الكردفاني/ الفرن الغريب - قصة قصيرة

*


لقد نزل رئيس روسيا البيضاء من الطائرة في مطارنا ولفحه ذلك السموم في وجهه ، فأذاب أوردته المثلجة من بقايا الأصقاع الباردة. ورأى لأول مرة شعبا يسير ببطء وكأنه مشهد إعادة لهدف مباراة كرة قدم. هناك وفي أول سانحة حيث وقف إلى جانب الرئيس استهل حديثه متعجبا من بطء هذا الشعب وحثهم على أن يكونوا أكثر سرعة. لكن الأمواج الصوتية هي بدورها لم تعبر أذن الشعب إلا بطيئة مفككة فلم يفهم ولم يحاول أن يفهم ما قاله رئيس بيلا روسيا.
والحق يقال أن هذه القصة قصها علي قوقازي جاء لأفريقيا في زيارة لإحدى معسكرات اللاجئين ، ضمن وفد من الأمم المتحدة ، وذلك في جلسة هانئة لاجتراع الجعة أمام مطل على ملتقى نهري أراجفي و ميتكفاري بمدينة مسخيتا الجورجية باهظة الجمال.
ففي خريف عام 1999 انهار عجلات سيارتهم رباعية الدفع تحت وطأة سيل مفاجئ ذاب على إثره أسفلت الشارع المعبد كالبسكوت. لقد قال لي بأن جميع من كانوا بسيارات الدفع - وهم وفد فني من الأمم المتحدة- قد شعروا بفداحة مستقبل هذه الدولة الأفريقية في تلك اللحظة ، فليس من دليل على نخر الفساد أكبر من أن تذوب الطرق الأسفلتية بهذه السهولة. قال بتعجب وهو مهندس ذو باع:
- لم يكن هناك سوى طبقة الاهتراء..
ثم نطقها بالانجليزية...Wearing course
لقد كانت مجرد قشرة وهمية أما طبقة الأساس فكانت كمسحة زبد فوق صاج الخبز.
وانتقل بعد نقده هذا للخبز مباشرة ، لقد اضطرت المجموعة إلى البقاء في حاضرة صغيرة في الناحية الجنوبية الغربية. انتظر الوفد طائرة عسكرية تعيدهم إلى العاصمة وقد بدأ الجوع يعصف ببطونهم.
قال القوقازي وهو يجرع جعته ساهما ؛ وجدت صفا طويلا من المنتظرين لخروج الخبز من الفرن فوقفت دون أن ألفت نظر أحد. في الواقع لم تسلم جورجيا نفسها من بؤس الانتظار في طوابير الخبز واللحم والأرز في حقبة الشيوعية البائسة. لاحظ صاحبنا القوقازي أن العاملين بالمخبز البلدي بطيئون جدا. كان العامل الذي يحمل طاولة الخبز المختمر إلى الفرن يحملها بوهن شديد. ثم يضعها كذلك بوهن ، أما من يضع الخبز الناضج على الطاولة الأخرى فكان هو بدوره أشد بطئا وهو يعيد حساب عدد كل عشرة أرغفة يضعها أكثر من ثلاث مرات رغم أن المسألة بسيطة جدا. لكن الأدهى - كما قال القوقازي- أن البائع وهو رجل أسمر البشرة قصير القامة شبه أصلع كان يضع على يساره كوب شاي ويحمل في يمينه سجارة ، كان كلورد انجليزي ، فهو يرشف من كوب الشاي رشفة ، ثم يجتر نفسا من سجارته ، ثم يحمل كيس الزبون ، ثم يلف حول نفسه ليواجه طاولة الخبز ، ثم يضع خمسة أرغفة ويعيد عدها أكثر من مرة ثم يضع خمسا أخرى ويعيد عدها أكثر من مرة ، ثم يدور حول نفسه ببطء ليواجه الجمهور المصطف بنصف قلق ونصف يقين ، ثم يسلم الزبون خبزه ، فيتقدم زبون آخر ، فيرشف البائع رشفة من كوب الشاي ، ثم يجتر نفسا من سجارته ، ثم يدور ....وهكذا دواليك.
بعد ذلك يأتي آخر ويحمل الطاولات الفارغة بذات البطء ويعيد حساب عدد الطاولات الفارغة أكثر من مرة.
لقد أدهش ذلك الوضع صاحبنا القوقازي لكنه قال محاولا تلطيف سخريته بأنه قد أدرك السر وراء ذلك.
اجترعت بعضا من الجعة ونظرت إلى النهر الأسمر والأشجار الباهتة السوداء تحيط بالكورنيش ولم أهتم بمعرفة السبب. فتبرع هو من تلقاء نفسه وقال:
- لقد جاء مالك المخبز فجأة .. وبدأ في توجيه اسئلة دقيقة للعاملين وبصرامة ممتزجة بحدة. أدركت حينها أن هؤلاء العمال يعانون من ضعف الثقة في أنفسهم جراء هذا الضغط من مالك المخبز. إنهم يحاولون دائما أن لا يقعوا في الخطأ.. لذلك كانوا بالفعل يقعون في الخطأ.. الخطأ الأهم هو أنهم فقدوا عفوية العمل أي عفوية التفاعل بين الذهن والجسد.
هنا ضاع حديث صاحبنا القوقازي وأنا أتذكر نفسي عابرا القارات من أجل الاستقرار لاجئا بدول ذات ثقافات لا عهد لي بها.
لم أفر لأنني مناضل سياسي ، إنما فررت من قمع اجتماعي كامل يدمر ثقة الشعب كله بنفسه ليعتمد في دوافع حركته على الكذب على نفسه باستمرار...
الطريق الأسفلتي كان مجرد قشرة فاسدة. فانهار.. لأن القشور لا تبقى أبدا..لا تبقى أبدا...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى