عبد العزيز بركة ساكن - طائرٌٌ، أسدٌ و جحوش!!

إذا قٌدِر لي أن أحدد عددنا في ذلك اليوم فاننا قرابة الستين طفلا، تتراوح أعمارنا مابين السابعة و الثامنة،بعضنا و أنا واحد منهم ، ماتزال قنابيرنا في مقدمة رؤسنا مبللة بالزيت وعلي أعناقنا تتدلي التمائم التي تحفظنا من العين و الحسد وتبارك أيامنا وتهبنا الحظ الجيد و الخير الوفير، كنا نتحدث جميعا في آن واحد بأعلي ما وهبنا من أصوات، كل يريد أن يوصل صوته للآخر في خضم غابة الحناجر التي تزأر في فوضوية، كنا نتحدث عن الكرة ، الطيور ، الحمير، حسونة المجنون،صيد الجراد ، جلب القراقير من جبل تواوا،التشعلق في الكواري و لقيط الفول السوداني من الزرائب،المطر،الحرب التي دارت مؤخرا ما بين أولاد حي السجون و أولاد حي البوليس و الذين استعانوا بثلة من أولاد ديم النور لرد هجوم أولاد السجون علي ضفاف خور مقاديف،لم ينتبه أي منا للأستاذ وهو يدخل الفصل ، إلا عندما صاح بصوت غليظ أجش
- انتباه!
صمتنا ، أشار علينا بيديه علامة أن نقف، و دعمها بالقول
- قيام.
قمنا و اقفين،
صاح،
- جلوس.
جلسنا، ولكنه هتف مرة أخري،
- قيام!
قمنا،
- جلوس !
جلسنا وكثير منا يصدر أصواتَ تنم علي عدم الرضى حيث أنه لم نفهم الضرورة من هذا القيام و الجلوس، ولكن ألم نأت للمدرسة لتعلم الأشياء التي لا نعرفها. شخبط الأستاذ في السبورة بطبشور ابيض شيئا، عرفنا فيما بع أنه : بسم الله الرحمن الرحيم. ثم من أشياء كثيرة يحملها، أخرج صورة كبيرة لأسد ضخم ، علقها علي مسمار دُقّ في أعلي السبورة، كان أسداً جميلاً كبيراً ينظر إلينا جميعا في آن واحد،أشار الأستاذ أليه بالمسطرة الطويلة و صاح فجاة
- ما هذا؟
فصحنا خلفه
- ما هذا؟
نظر الينا الأستاذ في استغراب ولكن في فمه ابتسامة صغيرة مخفية باتقان وذلك للحفاظ علي هيبته
قال،
- يا أولاد ....ما هذا معناها : دَا شُنُو، لمّان أقول ليكم ما هذا يعني أنا بسألكم دَا شُنُو ، فاهمين؟
هززنا رؤوسنا أن : نعم.
فصاح مشيرا بالمسطرة إلي الأسد الذي مازال ينظر إلي كل واحد منا و يكاد ان يبتسم لنا طفلاً طفلاً، لقد كان أسداً جميلاً.
- ما هذا؟
هتفنا بصوت واحد
- دا أسد.
قال في نفاذ صبر
- لا .. مش دا أسد، قولوا هذا أسد.
أشار إلي الأسد و صاح مرة أخري
- ما هذا؟
صحنا،
-هذا أسدْ.
قال مصححا إيانا و مستدركا خطأ ما قد وقع هو نفسه فيه.
- هذا أسدن.
عرفنا الآن أشياء كثيرة جديدة، أهمها أن الأسد أسمه أسدن، وليس أسد كما يطلقون عليه في البيت خطأً وهذه نعمة التعليم وسوف أخبر حبوبتي حريرة بذلك بمجرد أن أصل إلي النزل .
همس جاري عبادي كافي وهو جارنا أيضا في قشلاق السجون، بينما يلعب بقنبوره القصير
- شايف الطيّرة ؟
كان طائر ود أبرق صغير الحجم أرقط يَرِكّ أعلي السبورة، وعندما رفع المعلم المسطرة الطويلة للمرة الثانية، طار نحو عمق الفصل،و ركّ علي النافذة التي قرب ود حواء زريقا، فحاول ود حواء زريقا الأمساك به ولكن الطائر كان الأسرع فحلق فوق رؤوسنا باحثا عن مخرج، فتسابقنا جميعا دون فرز للإمساك به، صعد بعضنا علي الأدراج، صعد البعض علي أكتاف البعض علي وعد تقاسم ملكية الطائر ما بين الحامل و المحمول،استخدم البعض الرمي بالكتب و الكراسات في محاولة إصابة الطائر في الهواء حيث لا توجد حجارة أو سفاريك في الفصل، تشعلق البعض علي أعمدة السقف في محاولة جنونية للإمساك بطائر ود أبرق الشقي،لا أحد يدري شيئا عن الأستاذ ، هاج الفصل و ماج، أبرق و أرعد،ضج ضجيجا عنيفا ،ولكني استطعت أن أنهي الصراع بقفذة موفقة في الهواء مستعينا بكتف جاري عبادي ورأس أوشيك الكبير حيث وضعت عليه ركبتي و أنا أهبط علي الكنبة و الطائر المسكين يصوصو في يدي، قمت بسرعة بتجنيحه حتي لا يطير أو يجري ورميت به في الدرج إلي أن نعود إلي البيوت لنذبحه و نشويه و نأكله مناصفة مع أوشيك و عبادي.ولم يصمت الفصل إلا حينما سمعنا ما يشبه زئير الأسد أو هزيم الرعد بل ، قل نهيق ألف حمار متوحشٍ في لحظة واحدة في الفصل ، كان ناظر المدرسة يقف عند باب الفصل و حوله كل المدرسين و المدرسات و الخفراء و بائعات الطعام وحتي عم الخير العميان الذي يشحذ عند باب المدرسة،كان الناظر السمين يدق علي السبورة بكل ما أوتي من قوة بكفه وهو يجعر كالثور، صمتنا، مضي زمن من الصمت طويل وثقيل ، كانت أنفاس المدير تعلو و تهبط دون سبب وجيه نعرفة ولا نظن أنه يتعلق بالطائر فالطائر ملك لمن اصطاده ولمن شارك في اصطياده، كان غضبان و حانقا يتطابر الشرر من عينيه، لابد أن هنالك مكروها ألم به : هل ماتت أمه أم مات أبوه ؟ كنا ننتظر في قلق للأستماع ما يود المدير قوله،الشيء الذي أحضر له كل هؤلاء الناس عاملين بالمدرسة و معلمين. و أخيرا صاح وهو يحملق بعينين شريرتين نحونا ويضرب بكفه علي السبورة ضربة أخيرة قاسية، تطير الأسد المسكين في الهواء فيسقط و معه قلوبنا علي الأرض مثيراً عاصفةً من الغبار ،
- ما هذا يا جحوش...؟
أجبنا بصوت واحد منغم
- هذا أسدن.


بركة ساكن




أعلى