رشيد بلفقيه - الماضي البسيط *

أذكر المرة الأولى التي غادرت فيها هذه المدينة ، أذكرها بتفاصيلها الدقيقة رغم مرور عدة سنوات على ذلك الصباح الشتنبري الغائم.
عندما غادرت البيت لم أشأ أن أستقل سيارة أجرة ، حملت حقيبتي و و فضلت المشي في الشارع الطويل مارا بالعديد من الأماكن، متنذرا أحيانا و متذكرا أحايين أخرى .
أذكر أنني ابتعت عددا قديما من مجلة le monde de l'éducation ليس ترفا و لكن لأنها كانت أول ما أثار انتباهي و وافق ميزانيتي المتواضعة جدا ضمن معروضات 'المكتبة الشعبية' معولا أن أدفن وجهي فيها كلما اضطررت لذلك ولو متصفحا لأنني لا أحب الأحاديث المطولة مع 'جيران السفر' و لا أميل إليها .
قطعت الشارع مرورا 'بمحلبة الشمالي' حيث تفوح تلك الرائحة اللذيذة و المميزة المنبعثة من الخبز و من الحلويات المعروضة، فكرت أنني حيثما وجدت تلك الرائحة فسوف أعثر على الخيط الذي سيبقيني مشدودا إلى ذاكرتي، لكنني نسيت تلك الخاطرة بعد أن اكتظت الذاكرة بروائح أخرى و لم أتذكرها إلا بعد أن قرأت رواية البحث عن الزمن الضائع بعد سنوات عديدة ...
ابتعت أول علبة marquise كاملة و ولاعة زرقاء ثم ذهبت إلى مقهى قرب المحطة في انتظار مغادرة الحافلة نحو مراكش،و منها إلى مكان أجهل عنه كل شيء و كان توقيت خروج الحافلة حوالي منتصف النهار. لم يكن ذلك سفرا بقدر ما كان تحررا من مدينة جاثمة على الصدر،كما كنت أفكر، مدينة تشبه الدوامة التي متى وجدت نفسك داخلها تفقد مباشرة الاحساس بالاتجاه و بالزمن،و تدخل في حالة تخبط يائسة تحاول خلالها التعلق بأية قشة لتنجو فقط و تغادر ولو نحو المجهول أو عبر قوارب الموت ،
لكن هيهات ...
المحطة الطرقية الصغيرة تفوح منها روائح البول و النتانة كما هي دائما، و تبدو مكتظة بالحافلات و نداءات 'الكورتية' و أحاديث المسافرين و أصوات أخرى كثيرة تخلق مجتمعة سيمفونية صاخبة، خاصة بذلك المكان .
كانت أعداد المسافرين لا بأس بها و لكن ذلك لم يعوض تلك الوحشة الجارفة التي تسكن المحطات الطرقية، و التي تلمحها في قسمات الوجوه،و في حركات الأعين، و الأسئلة المترددة و الخطوات العصبية و الحقائب التي تحمل ما استطاعت الذاكرة انتزاعه من الزمن .
حتى بائع السجائر البغيض الذي لا يكف عن إطلاق السباب الفج و التحرش بالمسافرات ،كان ربما يطرد إحساسه بذلك السأم الثقيل بمعاكسة المسافرين .
"سرحت في نجوم االيل
و قلت سبحان الخالق
كل واحد في سماه
يسبح لحسابو "
و كان صوت سعيدة فيكري الهاديء و الجميل ينساب من مكان ما،من محل لبيع السندويتشات غالبا ...
كل شيء كان يمضي و كأنه مخطط مرسوم بدقة غرائبية و كان الزمن ينساب مني إلى الأمام بسرعة لا أملك أمامها سوى المتابعة الصامتة بقلب منقبض ...
لاحقا سأختبر تلك العدائية التي تحدث عنها باشلار في تقسيمه للأمكنة،و تلك الوحشة التي تطفح بها كل الفضاءات التي تتشكل جديدة دون تدخل الذاكرة .
لكن الغريب أنني هناك في الجنوب العطش دائما ، رفضت التأقلم بشكل قطعي و بقيت عالقا بين هنا لا أطيق الانتماء إليه و هناك لا أعتقد أنه سيطيقني يوما ...
و مضى كل شيء
كما تشاء الأيام
و تشتهي !
أذكر المرة الأولى التي غادرت فيها هذه المدينة كما قلت،أذكرها بحذافيرها،لكنني-و يا للغرابة- لا أذكر بتاتا أي مرة من تلك المرات التي عدت فيها إليها...


*كل تشابه مع أي عنوان آخر هو دليل على سبق إصرار و ترصد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى