رياض العلي - السياب والشيوعيين / قراءة في التاريخ الادبي

إشارة :
رحل شاعر العرب العظيم ومؤسّس الحداثة الشعرية العربية “بدر شاكر السيّاب” في يوم 24 كانون الأول من عام 1964 ،وكان يوماً ممطراً لم يعثر فيه الشاعر “علي السبتي” على بيت السياب في الموانىء بالبصرة فقد أفرغته الدولة من عائلته لعدم دفعها الإيجار، فسلّم التابوت لأقرب مسجد. وعلى الرغم من مئات المقالات والدراسات والكتب والأطروحات الجامعية التي كُتبت عن منجزه الشعري فمايزال هذا المنجز الفذّ مكتظاً بل مختنقاً بالرؤى الباهرة التي تنتظر من يكتشفها. تهيب اسرة موقع الناقد العراقي بالكتاب والقرّاء الكرام إلى إغناء هذا الملف عن الراحل العظيم.

بدأ السياب بنشر مقالاته ( كنت شيوعياً ) سنة 1959 في جريدة الحرية لصاحبها القومي الشوفيني قاسم حمودي في 29 حلقة تحمل عنوناً واحداً هو ( كنت شيوعاً ) ثم 11 حلقة بعناوين مختلفة , ثم صدرت من جديد عن دار الجمل سنة 2007 وقد أعد الكتاب وليد خالد أحمد حسن , والسياب في الحلقة الثانية يروي كيف تفاجأ من موقف الحزب الشيوعي الايراني ( توده ) وكيف فضل مصالح الاتحاد السوفييتي على مصالح الشعب الايراني ومن هنا – كما يقول السياب – بدأ الخيط الذي يربطه بالحزب الشيوعي العراقي يضعف خاصة بعد أن تأكد من أن الحزب الشيوعي العراقي يؤيد الاجراءات التي أتخذها حزب توده من الانقلاب الذي قاده فضل الله زاهدي ضد حكومة مصدق .
وقد نشر حميد كشكولي في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 7/2/2008 قصيدة نسبها للسياب يمدح فيها انقلاب 8 شباط البعثي ولم أتحقق من صحة نسبة هذه القصيدة للسياب , ولكن لو صح نسبة هذه القصيدة للسياب فهي تمثل موقف سياسي بالغ الضحالة منه , وهي أيضاً لو صحت تمثل تحول من ضمن تحولات السياب الفكرية والسياسية , ففي المقالات أعلاه كان يشيد ب ( الزعيم الاوحد) لكنه في ديوانه ( منزل الاقنان ) الذي صدر في بيروت عن دار العلم الملايين سنة 1963 وبالتحديد في قصيدة (قصيدة الى العراق الثائر ) التي كتبها بتاريخ 8/2/1963 ينال فيها من قاسم , لكنه قبلها يوم واحد كتب ( اغثني يازعيمي ) ولم نستطيع العثور على هذه االقصيدة ولم نعرف ان كانت قصيدة او رسالة , لكن السلطة الحاكمة بعد انقلاب 1958 عاملت السياب كأنه واحد من الموالين اليها فقد عين بوظيفة رئيس ملاحظين في دائرة التجارة براتب قدره 50 ديناراً وكان مبلغ جيد في ذلك الوقت بل أن السياب عمل في نفس الفترة في جريدة ( الجمهورية ) لصاحبها البعثي المعروف سعدون حمادي والتي كانت في ذلك الوقت تروج للسلطة الجديدة , ثم تعين في عدة وظائف أخرى لكنه لم يحالفه الحظ ربما بسبب مواقفه السياسية أو نزقه المعروف كشاعر .
مما لاشك فيه أن أتجاهات السياب الادبية لم تروق للادباء الشيوعيين من خلال نشر بعض القصائد وترجمة بعضها الاخر كما حصل عندما أصدر كتاب ( تراجم مختارة من الشعر العالمي الحديث ) حيث شنت عليه حملة شعواء سواء في العراق أو في لبنان .ويقول السياب أن بعد نشر هذا الكتاب بدأت المعركة الحقيقية بينه وبين الشيوعيين , ولكن في نفس الوقت يجب أن نقول ان السياب ( الشاعر ) حاله حال اي شاعر يحلم بالحرية ولا يطيق القيود حتى لو كانت قيود حزب آمن بمبادئه لذلك كان لا يطيق أن يكون شعره تحت رقيب الشيوعيين أو أي رقيب أخر , والسياب كان قد رفض بشدة أن يوقع عريضة استنكار ضد حركة الشواف الصادرة من الحزب الشيوعي , فما كان من بعض الشيوعيين الا أن يقدموا شكوى ضده بأنه كان يناصر حركة الشواف وكان من ضمن المشتكين نوري الراوي وقد أوقف السياب في مركز الشرطة ولما خرج بعد ايام قليلة وجد نفسه مفصولاً من عمله , وفي الضائقة المالية التي عاشها السياب لما كان في بيروت أقنع عبد اللطيف الشواف عبد الكريم قاسم أن يقدم مساعدة مالية الى السياب وقد كتب السياب قصيدة يمدح فيها قاسم نشرت في المجموعة الكاملة والتي عنوانها ( يا ابا الاحرار ) , أن قراءة قصة حاجة السياب الى المال هي وصمة عار في جبين كل حكومة ,نشرت جريدة الحوادث اللبنانية بتاريخ 5/4/ 1963 خبراً عن الازمة الصحية للسياب لما كان في انكلترا ومما جاء فيه (( صحيح ان لدى البعض مآخذ فكرية على السياب ولكن السياب قبل كل شئ شاعر عربي كبير يعاني ابشع ازمات حياته , أنها ازمة الفنان العربي الذي يعطي كل شئ دون حساب ثم يأتي اليوم الذي يحتاج فيه الى أي شئ حتى الى ورقة يدون عليها اشعاره ..البؤس الذي يعيشه بدر اليوم في لندن عار على كل مثقف عربي قرأ اشعاره وعار على كل مؤسسة نشر استثمرت دوواينه وعار على كل أنسان عربي يؤمن بقيمه الحضارية , عار علينا أن يسجل التاريخ غداً أن الذي اعطى العرب انشودة المطر ضن عليه العرب بقطرة من هذا المطر تبرد جراحه ))
مجلة الثقافة الجديدة لم تعد تنشر للسياب بسبب البياتي , يقول السياب في ص 20 (( بعض المتشاعرين التافهين من امثال عبد الوهاب البياتي وزمرته قد برزوا بشكل عجيب آنذاك لخلو الميدان لهم لأنني لم انشر خلال وجودي في ايران والكويت ثم ايران ولا بيتاً واحداً من الشعر )) , وفي الحقيقة قصة الخلاف بين السياب والبياتي تعتبر من القصص المثيرة للدهشة , يقول البياتي في حوار أجراه معه نجم عبد الكريم ونشر في كتاب ( شخصيات عرفتها وحاورتها ) الجزء الاول الصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر , يقول (( لو أعدنا قراءة بعض قصائد نازك والسياب لوجدنا أنها لا تحمل من الشعر الجديد الا شكله ))ويقول (( فصل السياب من الحزب الشيوعي فما كان منه الا أن قاد حملة صار يهاجم فيها مختلف التيارات التقدمية وأخذ يصب اللعنات على الجميع بما فيهم زملاؤه في الحزب وبعضهم كانوا اصدقاءه )) ويقول أن صدور دويانه ( اباريق مهشمة ) قد اجج الحقد في نفس السياب فدفع ببعض الصغار من عديمي الموهبة الذين كانوا يحيطون به لمهاجمة الديوان ويقصد البياتي بهؤلاء الصغار كاظم جواد وحسين مردان ومحيي الدين اسماعيل حيث نشر اسماعيل مقالة في مجلة الاداب بتاريخ 2/7/1954 مقالاً يهاجم فيه ديوان الاباريق ونشر حسين مردان في احدى الصحف المحلية حيث أتهم البياتي بالسرقة من شعراء أخرين , ويقول البياتي أن السياب كان شاعر مناسبات لكن شهرة البياتي عربياً وعالمياً أستمدت مقوماتها الادبية لأانه قدم شعراً ناضجاً , وأنتقد البياتي قصيدتي السياب ( المومس العمياء ) و( حفار القبور ) بكونها أقرب ماتكون الى القصص المختلقة لأثارة الشفقة ولم يكن لها ارتباط بالواقع المعاش الذي كان يتناوله البياتي في اشعاره , ولكن الحقيقة تقال ان كل قصائد البياتي لا تأتي بمنزلة ديوان واحد للسياب ك ( انشودة المطر ) ومن المعروف أن البياتي كان من اكثر شعر.ويبدو أن الخصومة بين الاثنين جاءت بسبب احتضان الحزب الشيوعي للبياتي وبسبب غيرة هذا الاخير من موهبة السياب الشعرية وكذلك كان للبياتي موقفاً مماثلاً مع الجواهري . فهل أن الحزب الشيوعي لا يهمه الشعر بقدر ما يهمه الشاعر , وفي المقالات التي نشرها عبد الرزاق عبد الواحد في جريدة الزوراء البغدادية وبالتحديد في المقالة التي نشرت بتاريخ 23/4/1998 يلوم عبد الواحد السياب على نشر مقالات ( كنت شيوعياً ) فيجيبه السياب ((انهم يذبحونني يا عبد الرزاق، هم يذبحونني ألا تفهم ؟ )) و مشكلة السياب مع الحزب الشيوعي كان سببها البياتي
نشرت جريدة ” طريق الشعب ” – العدد 6، السنة 59، كانون ثاني 1994 خبرا مفاده ان مجلة (الاغتراب الأدبي) التي يصدرها الشاعر د. صلاح نيازي أشارت في عددها 25 الى ان السيد عبد الصاحب الموسوي تحدث عن السياب في أيامه الأخيرة في المستشفى في الكويت. ومما قاله الموسوي : ” كنت أكثر زائريه القليلين مكثا عنده واستماعا اليه، وكانت به رغبة شديدة للكلام عن كل شيء والتحدث في كل موضوع وخصوصا ما يتعلق بحاله وتنكر الحكومة العراقية له. وكان يشعر بندم جارح حين يتذكر مقالاته التي نشرها في جريدة قومية بعنوان ” كنت شيوعيا “. وكان يشد بيده اليمنى ( السليمة ) على شعره الخفيف جدا ويصرخ بكلمة شتيمة على نفسه لأنه ارتكب تلك الحماقة ورضا ان يكذب على رفاق لا يستحقون ان يوصموا بما وصمهم به على طول تلك المقالات. وكان يقسم بأسلوب متشنج ان كل ما كتبه كذب في كذب اضطره على ارتكابه سوء وضعه الاقتصادي. كما كان يذكر بندم شديد قبوله للمساعدة التي قدمها عبد الكريم قاسم من أجل ان يتعالج في الخارج )”. أشكالية الثقافي/السياسي /بعض جوانب العلاقة بين السياب و الحزب الشيوعي
د.عدنان عاكف )
السياب والبياتي

ومن المثير للدهشة أن السياب عرف عنه بأنه انسان هادئ وغير صدامي لكنه في هذا الكتاب بين عكس ذلك .فلغة الكتاب كانت انفعالية و لا ترقى الى لغة السياب الشعرية الباذخة.ناهيك عن كمية الاوصاف غير المقبولة التي يوصف فيها السياب أعضاء الحزب , وذكرني كتاب السياب هذا بكتاب شيوعي سوري اسمه قدري قلعجي نشر كتاباً في الثمانيات عنوانه ( تجربة عربي في الحزب الشيوعي ) صدر عن دار الكاتب العربي للطباعة والنشر في بيروت أو رواية ابراهيم البهرزي ( لا ابطال في طروادة ) الصادرة عن دار ميزوبوتاميا في بغداد سنة 2015 والتي تعتبر من أهم الروايات العراقية التي تناولت محنة الشيوعيين العراقيين .
صدور كتاب ( كنت شيوعياً ) الان غير مفيد للقارئ العادي لكنه مفيد لمن يعني بتاريخ الادب والتاريخ السياسي وتاريخ الحزب الشيوعي بشكل خاص .
يقول السياب في كتابه هذا : (( أن الشيوعي أو بالاحرى العضو في الحزب الشيوعي أنسان دون شخصية وهو كالطفل الصغير لا يستطيع أن يعيش وأن يدبر شؤونه دون أمه )) ص 19


أعلى