محمد علام - لعنة «النثر الفني»

" لقد أصبح الدكتور طه حسين ممن يملكون سلطة إجاعة البطون وإشباعها".
هكذا كتب إبراهيم عبد القادر المازني، تعليقًا على رفض الدكتور طه حسين تجديدَ تعاقد الجامعة المصرية مع الدكتور زكي مبارك، وغاية زعم طه حسين في ذلك أن "مُبارك" تم تعيينه في فترة تقاعده الجبري والتعسفي الذي فرضته عليه حكومة إسماعيل صدقي، فقال بعد عودته إلى الجامعة: "أنا لم أُستشر في تعيينه، فلا أُستشارُ في تجديد عقده". وسرعان ما أثار فصل زكي مبارك زوبعة في الوسط الثقافي، خاصة بعد أن كتب "مبارك" في إحدى مقالاته: "لو جاع أولادي لشويتُ طه حسين وأطعمتهم لحمه".

المُستشرِق والمُستغرِب
نشر الدكتور طه حسين في مجلة المقتطف سنة 1926 مقالًا عن النثر في القرن التاسع عشر وتحدث عن بداية النثر العربي وعن بن المقفع وكيف كان يَلحَن ويحرف الكَلِم عن مواضعه؛ لأنه في ظنه كان أول الثائرين. ولما ذهب زكي مبارك إلى باريس سنة 1927، وجد هذا الرأي مسيطرًا على آراء المستشرقين، خاصة المسيو مرسيه صاحب الرأي القائل بأن العرب أخذوا مناهج النثر عن الفرس؛ لأن أول ثائر عند العرب هو ابن المقفع وكان فارسي الأصل، ولكن "مبارك" اهتدى إلى أن للنثر العربي أصولا أخرى.
أصدر زكي مبارك كِتابَ «النثر الفني» عام 1934م، واستقبلته جميع الصُحف العربية بالترحيب، ولم يقف ضده في البداية سوى طه حسين وأحمد أمين ثم تلاهما عددٌ ليس بقليل من الفطاحل. ولقد حمل الكتاب في مقدمته هجومًا ضاريًا على آراء طه حسين لإرجاعه الفضل إلى نشأة النثر الفني إلى الحضارة اليونانية، حيث يقول زكي مبارك في الفصل الأول من كتابه:
" وهناك رأي مثقل بأوزار الخطأ والضلال... يقضي بأن العرب في الجاهلية كانوا يعيشون (Primitif) عيشة أولية، والحياة الأولية لا توجب النثر الفني؛ لأنه لغة العقل، وقد تسمح بالشعر؛ لأنه لغة العواطف والخيال، وهذا الرأي أعلنه المسيو " مرسيه" منذ أعوام... وقد اختطف الدكتور طه حسين هذا الرأي وأذاعه في دروسه بالجامعة المصرية، ثم أثبته في كتاب «المجمل» الذي اشترك في وضعه للمدارس الثانوية.
وفي ذلك العصر كان النثر الفني موجودًا عند أكثر الأمم التي جاورت العرب أو عرفوها؛ كالفرس والهنود والمصريين واليونانين، وليس بمعقول أن يكون لتلك الأمم نثر فني قبل الميلاد بأكثر من خمسة قرون، ثم لا يكون للعرب نثر فني بعد الميلاد بخمسة قرون، كأن العرب انفردوا في التاريخ القديم بالتخلف في ميادين العقل والمنطق والخيال.
وكانت حجة المسيو مرسيه أنه لو كانت هناك مؤلفات نثرية لدوِّنت وحفظت ونقلت إلينا كلها أو بعضها كما هو الشأن في آثار الهند والفرس والروم، وقد أجبته يومذاك بأن فقدان تلك الآثار لا يكفي لإنكار أنه كان لها نصيب من الوجود... وخلاصة ما أراه أنه كان للعرب قبل الإسلام نثر فني يتناسب مع صفاء أذهانهم، وسلامة طباعهم، ولكنه ضاع لأسباب أهمها شيوع الأمية، وقلة التدوين، وبُعدُ ذلك النثر عن الحياة الجديدة التي جاء بها الإسلام ودوَّنها القرآن".

الكتاب الذي حرَقَ صاحبه
تضمن كتابُ «النثر الفني» هجومًا على آراء طه حسين، فكثيرًا ما كان يرى زكي مُبارك أن طه حسين مغالٍ في انحيازه لبلاد اليونان وثقافتها، خاصة أنه اعتبر بكتابه "قادة الفكر" أن الثقافة اليونانية القديمة مصدرُ حضارات الشرق والغرب، ولم يكن يروق لـ "مبارك" هذا الأمر وقد علق على ذلك قائلًا: "ولو تريث طه حسين لعرف أن هناك كتبًا أجدر بالتلخيص وهي التي ترى أن الثقافة اليونانية منقولة عن المعارف المصرية، وأن فلاسفة اليونان لم يكونوا إلا تلاميذ لفلاسفة مصر القدماء. وأنا لا أسوق هذه المؤاخذة تعصبًا لبلادي، فاليونانيون أنفسهم يعترفون بأنهم تلاميذ المصريين وكانت زيارة مصر واجبة على كل يوناني يريد التفقه في درس أسرار الوجود".
ولقد غمز زكي مبارك ذات مرة لطه حسين بأن يُكمل ثورته كما أعلنها على الشعر الجاهلي لتشمل النثر الجاهلي، فسأله طه حسين وما دليلك؟ فقال: القرآن. فشهق طه حسين قائلًا: أنت عايزني أتكفر! "هنالك ابتسمت وقلت: لا بأس من أن يكفر زكي مبارك بسبب نظريته عن النثر الجاهلي، فقد كفر أستاذ له من قبل بسبب نظريته عن الشعر الجاهلي وتلك ظاهرة طبيعية فإن الشعر أقدم من النثر، كما أن الأستاذ أقدم من التلميذ، والكفر درجات بعضها مركب وبعضها بسيط". وما هي إلا سنوات حتى أصدر "مبارك" النثر الفني وكأنه موجه لطه حسين كاتهام بالتخاذل والجُبن.
وكانت أبرز آراء زكي مبارك التي أثارت ضده أحمد أمين ومعروف الرصافي ومحمد فريد وجدي وغيرهم كُثُر هي:
أن العرب كانوا على قدر من الحضارة والعلم فلما جاء الإسلام ودفعهم إلى الأمام اندفعوا.
النثر الفني كان موجودًا عند العرب قبل الإسلام.
إن العرب الجاهليين كانوا قد دخلوا في تطور نحو ثلاثة قرون قبل البعثة المحمدية.
القرآن شاهد من شواهد النثر الجاهلي.
أما إبراهيم عبد القادر المازني فقد وقف ضد طه حسين ورفاقه متحديًا أن يأتوا بكتابٍ مثله إن كانوا صادقين. ووفقًا للصحفي محمد محمود رضوان في كتابه "صفحات مجهولة من حياة زكي مبارك"؛ أن "المازني" كتب في موضع آخر يقول: "إني لأحدثُ نفسي أحيانًا بأني لو كنتُ أقول الشعر في هذه الأيام لرثيتُ طه حسين، فإنه يُخيل إليّ أنه قد مات طه حسين الذي عرفته وأحببته وأكبرته وجاء غيره الذي أنكره".
كان مثل هذا الصراع طبيعيًا في تلك الفترة التي تتشكل فيها ثقافة الأمة ويتم التمهيد لطريقها الحضاري، ورويدًا صارت تجد آراء زكي مُبارك طريقها إلى فرع الدراسات الأدبية، وأصبح يُعتد بدراسة المُخاطبات كجزء من النثر الفني، وهي النظرة التي حاول المستشرقون تعديلها لتصنف الكلام العربي لثلاثة أقسام: شعر ونثر ومخاطبات. وهو ما وضع النثر الجاهلي في مأزق تأريخي كما يقول الدكتور زكي مُبارك بأننا حين ننكر أن المخاطبات أحد ألوان النثر، ننكر على أمة بأسرها أن تكون لها مكانة تستحقها بين مثيلاتها في الرقي والازدهار الفكري وإن كانت لهذا الازدهار روحٌ خاصة ومختلفة.

جوع وموت وخراب ديار
لقد جلب كتاب النثر الفني على زكي مبارك الضررَ، ليس وحده؛ ولكن على أسرته أيضًا، فسرعان ما فقد وظيفته في الجامعة، ثم تم التعتيم على كتابه كما ذكرَ مُتهِمًا وزارة المعارف، فتم فصله من الوزارة، وما هي إلا سنوات قليلة ولفظ أنفاسه الأخيرة، ليترك أولاده في مهب معاناة حقيقية من أجل الحصول على لقمة العيش، وقد أثارت رسالة نجله فهمي زكي مبارك هذه المأساة في مجلة الرسالة الجديدة عام 1954م:
"حتى وزارة المعارف ضنت على أولاد زكي مبارك بالقليل من العون.. ورفضت أن تقرر كتابًا أو اثنين من مؤلفاتها على مدارسها.. فجميع من في الوزارة خصوم لنا يرهبهم أن نشبع ويسعدهم أن نجوع! إننا يا سيدي نعيش في مأساة.. فمن العسير أن أقنعك أننا لا معاش لنا، ونحن أبناء رجل خدم اللغة العربية، وأضاع شبابه في دراسة الأدب وإعلاء شأنه. من العسير أن أقنعك بأن أحد أبناء زكي مبارك يعمل بلا أجر في دار الكتب منذ ثمانية شهور! مات زكي مبارك فحاول بعض ذوي النفوس المريضة أن يحطموا ذكراه ويجعلوا اسمه في طي النسيان فتجاهلته الإذاعة المصرية، والصحف كلها تجاهلت يوم ذكراه!".
ولقد أشار نجل زكي مبارك، إلى أن خصوم أبيه الذين خاض ضدهم معارك فكرية وأدبية، خاضوا ضد أسرته معارك مادية وحياتية، هددت حاضرَ ومستقبل أبناء واحد رهن حياته برقي ثقافة أمته وتقدمها. لم يترك زكي مبارك لأبنائه سوى بيتٍ، اكتشفوا بعد وفاته أنه مرهونٌ بمبلغ 400 جنيه، وهو رقمٌ كبيرٌ للغاية آنذاك. وكتب يوسف السباعي مُعلقًا على تلك الرسالة:
"أكادُ أنشر على الناس نصيحة كبرى.. إياكم واحتراف الأدب.. إياكم والاحتراق في سبيل الأدب.. فإن من يحترف الأدب في مصر.. يحترق!!".

لطمات ولثمات
برعَ الدكتور زكي مبارك في لون نذير للغاية في العربية، وهو الأدب الوجداني، وهو يمكن اعتباره امتدادا لجبران خليل جبران في العصر الحديث، مع اختلاف غلَبة النزعة السير ذاتية على كتابات "مبارك" خاصة كتابه الأشهر «ليلى المريضة في العراق».
لقد أحدث زكي مبارك زخمًا وحراكًا في الحياة الثقافية، لطرقه على أبواب مهجورة، وأمور طواها الدهر منذ زمن بعيد، فجاء كتابه "عبقرية الشريف الرضي" كأول إصدار من نوعه في العصر الحديث يوفي هذه الشخصية حقها. أما ما كتبه في "التصوف الإسلامي" يظل قنبلة من نور ألقيت في وقت انجرفت فيه بعض العقول العربية إلى تيارات مادية وعدمية مُستمدة من الغرب، ومع ذلك يظل لكتاباته الوجدانية وهج لا يضاهى.
وقد أصدر في ذلك كتاب «ذكريات باريس»، والذي مثّل قيمة أدبية واجتماعية مهمة آنذاك، خاصة للإصدارات التي تناولت بعد ذلك وصفَ باريس، ولكن أحد الكُتاب اختصره في أنه مُجرد سجل لغراميات "الأديب الفلاح" مستنكرًا بأن زكي مبارك كانت له غراميات في باريس من الأساس، فـ "زكي مبارك دميم الوجه فلا يعقل أن تكون له غراميات".
ولعل مقالات زكي مبارك التي كان ينشرها من العراق في مجلة الرسالة في أواخر الثلاثينيات، تناولت تلك الآراء بسخرية لاذعة، وإنما ما كان يشغله في تلك الكتابات التي جُمعت فيما بعد في كتاب "وحي بغداد" هو أن يفلسف مفهومًا وجدانيًا للحب.
لقد كان المُقاتل الأدبي كثيرَ السقوط في الحب، فصار كفراشة سقطت في بحر من العسل، فلا هي غرقت ولا استطاعت أن تُحلّقَ مرة أخرى! خاصة وهو دُنجوان الأدباء الذي اتخذ في كل مدينة "ليلى"؛ في باريس وبغداد والقاهرة، فلُقبَ بـ سُلطان العاشقين، ولكن تظل أكثرهن تأثيرًا في قلبه؛ هي ليلى المريضة في الزمالك، والتي جرفت مداده ليكتب لنا كُلَّ تلك النثريات الرائعة، هي النجمة السينمائية زوزو حمدي الحكيم، وقيل إنه عشقها عشقًا عُذريًا تمامًا، ولم ينل من شفتيها قُبلة واحدة، رغم أنه تحدث عن هذه القبلة المُتخيلة التي تطارده يقظًا ونائمًا، وقبل أن تتركه وتتزوج من الكاتب الصحفي محمد التابعي، ألهمته -بما تركته في نفسه من وقائع وهواجس وحقائق وأكاذيب- بواحد من أهم كتبه: "ليلى المريضة في العراق".
«سيدتي أقدم إلى قلبك النبيل أطيب التحيات وأشرف العواطف، وأشكر لك تلك الكلمة الرقيقة التي خطتها أناملك اللطاف على صفحات الصباح، فقد شرحت بها صدري وأقنعتني بأن مصر لا تزال بحمد الله معدن الذوق... إن همك كله انصرف إلى إقناعي بأنك موجودة، وأنني زرتك بالفعل مع محمد وسعيد، ولكنك لم تذكري العنوان لأعرف بالضبط من تكونين، فقد اشتغلت بطب القلوب سنين عددًا، وتشرفت بعيادة نحو سبعين مليحة من ملاح الزمالك، ويسرني أن أسجل أني كنت دائمًا بلسمًا شافيًا، وأن البهجة كانت تحل حيث حللت، وأن الأفراح كانت تقام في الأفئدة والقلوب حيث توجهت فيا سيدتي، من أنت في أولئك المِلاح؟ فقد تكونين أجمل من عرفت، وأشرف من عرفت، وأكون نسيت. وهل يستحيل النسيان على رجل مثلي؟ لقد عشت دهري أتقرب إلى الله بتدليل المِلاح، ولا أدري ماذا أنفقت من مالي ومن شبابي، وكل ما أذكر من تفاصيل الحساب أنني كنت فتى كريمًا فلم أعرف الخيانة ولا الغدر ولا النميمة، ولو شئت لقلت إنني لم أعص الله قط، ولكن من يصدقني؟ وهل من معصية الله أن نتغنى بالوسامة والصباحة والجمال؟ ومعاذ الأدب أن أقول إنني رجل صالح، فالرجل الصالح هو الذي لا يؤذي أحدًا أبدًا، وأنا قد آذيت الأدباء، لعنة الله عليهم، ولكن يعزيني أنني راعيت الأدب مع الله فلم أقدم أية إساءة إلى وجه جميل، أما الأدباء فهم شياطين ودمهم مُباح».



محمد علام
أعلى