أحمد بوزفور - يوم في حياة..

أفيق على رنين منبّه الساعة. أنظر حولي. أتفقد أعضاء جسمي. كل شيء في مكانه. أقف. بعض الحركات و"في غدير الصباح أحرك سرا أخضر، مثل ضفدع، بإصبعي"، كما يقول سركون بولص، فلا يتحرك، ولا ينط، واقفا على حافة غدير القلب لا يتحرك إلى الخارج ولا إلى الداخل، لعله يخاف، كضفادع زهير، "الغم والغرقا". أؤجل المحاولة مع سري الأخضر. أتناول فطوري. واغادر البيت إلى الكلية.
في الكلية، وداخل الورشة الأسبوعية لمجموعة البحث في القصة، يطرح الأستاذ عبد المجيد جحفة للقراءة نصا لمحمد خضير عنوانه "غرفة في درجة 45 مئوي". نص إشكالي: هو من جهة، مقدمة الكاتب لمجموعته القصصية "في درجة 45 مئوي" يطرح فيها خلفيات إبداعه لقصص بعينها مكتملة، وتوجد داخل المجموعة، قصص أخرى لم تكتمل بعد. وهو من جهة أخرى نص إبداعي جميل، يمكن أن يقرأ باستقلال عن كاتبه وقصصه، على اعتبار ان ضمير المتكلم فيه مجرد شخصية خيالية تكتب القصص، ولا تتمها في الغالب.
الورشة تتحرك بالتدريج، وتتصاعد حيويتها. في البداية، استمع أعضاء الورشة إلى النص، ثم انطلقت المناقشة حول مسألة التجنيس. أتدخل في المناقشة. رأيي أن النص يقبل الاحتمالين معا، ولا ضرورة لترجيح أحدهما، حتى لو قال الكاتب نفسه إن النص مقدمة.
يقرأ أحدهم جملة في النص: "وإذ تترى الكلمات، تبنى القصص كما تبنى الجدران، أو تُنحت كما تنحت التماثيل"، ويتساءل: كلمة "تترى" صفة، فلماذا يستعملها الكاتب فعلا مضارعا؟
المناقشة تتطور في الورشة. حين يجدون في النص خروجا على معايير اللغة، لا يصرخون: "خطأ"، بل يتساءلون: لماذا؟ وما هي الوظيفة الفنية لهذا الخروج؟
يختم خضير النص بالإشارة إلى مشروع قصة لم يكتمل، وهو ليس بقادر، يقول، على إنجازه. مشروع قصة عن الغرف: سبع غرف متداخلة بعضها داخل بعض، كالعلب الصينية، او حكايات "ألف ليلة وليلة". وفي كل غرفة شيء بارز كأنه موضوع لوحة تشكيلية: مدفع، مرايا، كرسي، كلب موثق... الخ.
المشروع، كما طرحه خضير، نص جميل، يبدو انه ليس بقادر على إنجازه، لأنه أنجز فعلا. المنجز لا ينجز. أتذكر ما قاله ناظم حكمت عن القصيدة الأجمل، التي لم تكتبها بعد.
تتناول المناقشة بعد ذلك مجمل كتابات خضير: "المملكة السوداء" خصوصا. أطرح للمناقشة فكرة بدت لي فجأة:
كاتب القصة أحد اثنين:

- الكاتب الحمل: كاتب يعاشر ويعاشر، يخرج إلى الناس، ويعيش معهم، ويكتب عنهم، وهم في المقابل، يعتبرونه مرآتهم، يجدونه مستساغا، بل حلوا... في النهاية يأكلونه.
- الكاتب الذئب: كاتب متوحد، يعيش في عزلة، وينفر من الناس والأضواء والشهرة. كأن تأبط شرا يتحدث عنه حين قال:
قليل التشكي للمهم يصيبه/ كثير الهوى شتى النوى والمسالك
يرى الوحشة الانس الانيس ويهتدي/ بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
والناس في المقابل لا يفهمونه غالبا، ويجدونه غريبا، أو متوحشا، او متكبرا، ولا يستسيغون لحمه إذا ذاقوه، كأن به سما.
يقول تأبط للعقبان التي ستأكل لحمه حين يقتل في عراء الصحراء.
لغة الكاتب الحمل، لغة خارجية بصرية شفافة تقدم العالم الواضح المفهوم. ولغة الكاتب الذئب لغة داخلية رؤيوية حافلة بالكتب لا بالناس، وبالنصوص لا بالمشاهد، وبالشعر لا بالوصف.
محمد خضير كاتب ذئب، يبدو لي.
الفكرة أثارت جدالاً. بعضهم أشار إلى أن الذئب لا يوحي بالوحشة والعزلة فقط، بل يوحي بالمكر والخديعة كذلك، وربما كان عليَّ أن أبحث لهذا النوع من الكتّاب عن رمز آخر. ربما.
بعضهم نوّه بحماستي في الحديث عن الكاتب الذئب، وقال إنني في الحقيقة أتحدث عن نفسي لا عن محمد خضير. ربما لم اكن اتحدث عن نفسي ولا عن خضير. ربما كنت أتحدث عن الكاتب الذي أحلم أن أكونه، ربما.
تنتهي المناقشة. يليها اجتماع لمكتب مجموعة البحث حول مواد العدد السادس من مجلة "قافصاد"، وحول إكراهات التمويل، وضغط اقتراب معرض الكتاب. أتغدى في الخارج، وأعود إلى البيت للقيلولة.
أفيق على هزة الحلم. من قال إننا نعيش أيقاظا؟، إنما العيش الحلم. أنت تعيشه بقوة، بكل وجدانك وحواسك، حتى لتحس وانت تفيق بإحساسين متناقضين، مع أنهما معا فرح عميق.
من جهة: فرح بأنك عشت كل هذا الجمال، وبكل هذا العمق، وهذا التركيز.
ومن جهة أخرى: فرح بأنك، وأنت تفيق، قد نجوت منه، لأنه جمال آسر ضاغط مخيف.
الغريب أني لا أتذكر شيئا من الحلم. في دمي فقط أثره الشامل والعميق. لا بد أنها كانت في الحلم، هي وحدها من يحدث مثل هذا الأثر في دمي.
أحرك مرة أخرى سرّي الأخضر بإصبعي، فلا يتحرك. أتناول مشروع قصة "لوللو" الذي لم يكتمل. في الحقيقة لم يبدأ. هو مجرد سحابة خفيفة مرتفعة تتجول في عنان الخيال. عن قليل قد تقشع. أفكر في أول ضوء رأيته في حياتي. أتذكره الان، ولكني لا أدري ما كان:
ضوء الشمس على حائط بيتنا في الدوار؟ قيل لأعرابية عاشقة: ما مبلغ حبك لصاحبك؟ فقالت أرى الشمس على حائط بيته أجمل منها في أي مكان آخر.
هل كان ضوء مصباح؟ في الليل تحيط به الظلال الموحية والمخيفة أحيانا. في الدوار عين ماء متوحشة لا يرتادها أحد، تسمّى "عين المصباح"، لأن الجن تضيء بها مصباحا صغيرا في منتصف الليل.
كتبت عنها منذ زمان بضعة أسطر في قصة بعنوان "موسيقى" توجد في مجموعة "الغابر الظاهر":
"عين المصباح/ فرح مسروق
عين المصباح/ جسد المعشوق
عين المصباح/ قطرة ماء أخضر والدنيا حبة برقوق".
وسخرت حينئذ من هذه الموسيقى القوقية.
هل كان انعكاس الضوء على صينية أو كأس أو براد؟
ربما. ولكن ذلك الضوء أيا يكن، له اسم. واسمه كان هو "لوللو". هكذا كان الكبار يسمّونه لي.
عن ذلك الضوء البعيد الذي كنت أمدّ يدي الصغيرة إليه ولا أطوله، أريد ان أكتب. لأن يدي التي كبرت وطالت، لا تزال ممدودة إليه حتى الآن. وحتى الان لا تطوله. تغيرت أسماؤه كثيرا. سميته "القرآن" حين كنت أحفظه في الكتاب. وسميته البحر حين كنت أحلم بالبحر قبل أن أراه. سميته زهرة حين أحببت. وسميته الثورة حين ناضلت.
سميته القصة حين بدأت أكتب. لكن المسمّى كان واحدا دائما. وكلما أطلقت عليه اسما ابتعد وارتفع وتناءى. لوللو... يا لوللو... ما أنت؟
يقولون لي: ما أنت في كل بلدة/ وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى.
هل كان المتنبي هو الآخر يبحث عن لوللو؟؟.
في آخر النهار، أحرك سري الأخضر، أمشي الآن أحوى فينط، نطة واحدة، ولكن إلى الداخل لا إلى الخارج.
اقبع هناك إذاً، يا منبع هذه المصائب التي أسميها قصصا وهي "محاين" تعلق على الحافة إذا شئت، كدمع البحتري:

نهته رقبة الواشين حتى/ تعلق، لا يغيض ولا يسيل
ولكن نق على الأقل. أسمعني صوتك الطحلبي المقرور. البرد. اقترب منتصف الليل. أتذكر زهرة، فأرتعش. أهرب إلى دفتر مختاراتي الشعرية، وأستفتح، فتطالعني أسطر الشاعرة الألمانية باولا لودفيغ:

"بزغ نجم منتصف الليل/ الأجرام الأخرى آفلة/ والريح توقفت عن الهبوب/ ما عادت الحيوانات تتنفس/ وجسدي عين فحسب/ تتطلع عبر السماء اللانهائية/ صوب نجمها الأوحد".



أعلى